أخر الأخبار

المسؤولية العقدية


La responsabilité contractuelle المسؤولية العقدية،

لما كانت الغاية من إنشاء العقود والاتفاقات المبرمة بين الافراد هو تنفيذ مضمونها بالطريقة المألوفة في ميدان التعامل، ونعني بذلك تنفيذ الالتزام عينا حسب ما تم الاتفاق عليه، لا فرق في ذلك بين الالتزامات بالقيام بعمل او الامتناع عن القيام بعمل، أو التي تفيد اعطاء شيء ما. إلا أن هناك أكثر من سبب يحول دون حصول هذا التنفيذ العيني بعضها يرجع لإرادة أحد المتعاقدين والبعض الاخر يرجع لأسباب أجنبية كالقوة القاهرة، والحوادث الفجائية والأخطاء المنسوبة للغير، وعلى كل حال فإن إعمال قواعد المسؤولية العقدية تنحصر في إطار العلاقة التي تربط المتعاقدين ببعضهما عند الاخلال بالتزاماتهما العقدية.

الفصل الأول : مظاهـــــــــــــــر المسؤولية العقدية

تعتبر المسؤولية العقدية جزء لا يتجزأ من المسؤولية المدنية عموما، فكلاهم يهدف إلى تعويض الطرف المضرور عن الاضرار والخسائر التي لحقت به، سواء كان ذلك ناتجا عن الاخلال ببنود العقد أو التأخر في تنفيذه، وهو ما يسمى بالمسؤولية العقدية، أو كان نتيجة للإخلال بالتزامات قانونية وهذا ما يسمى بالمسؤولية التقصيرية  responsabilité délictuelle  أو المسؤولية عن العمل غير المشروع.

وإذا كانت المسؤولية التقصيرية مصدرا من مصادر الالتزام، فإن المسؤولية العقدية لا تعدو ان تكون آثرا من آثار الاخلال بالالتزامات العقدية او بتعبير آخر مجرد جزاء من جزاءات عدم تنفيذ الالتزام.

ويتحدد مفهوم المسؤولية العقدية  في الحالة التي يخل فيها المتعاقد بال التزاماته اتجاه الطرف الآخر، ويؤخذ مصطلح الاخلال بمعناه الواسع بحيث يشمل حالات عدم تنفيذ الالتزام كلا أو بعضا، وكذا الحالات التي يتأخر فيها التنفيذ عن الوقت المحدد في العقد، وهذا ما أشار إليه المشرع في الفصل 263 من قانون الالتزامات والعقود الذب جاء فيه :”يستحق التعويض إما بسبب عدم الوفاء بالالتزام أو بسبب التأخر في الوفاء به، وذلك ولو لم يكن هناك أي سوء من جانب المدين “، وإذا كان الوضع المألوف هو أن استحقاق التعويض في إطار المسؤولية العقدية غالبا ما يرتبط بفسخ العقد، إلا أنه ليس هناك ما يمنع على المحكمة من الحكم بالتعويض مع الابقاء على العقد قائما، متى كان التنفيذ العيني للعقد لا زال ممكنا ولو في جزء من العقد.

وللمسؤولية العقدية عدة مظاهر تحكمها قواعد مشتركة، إلا ما استثني منها بمقتضى نص خاص، وهكذا فبعدم كانت المسؤوليات العقدية خاضعة لنظام قانوني موحد، فغن الاتجاه الحالي في ميدان التشريع والفقه أصبح يتشدد كثيرا في ميدا ن المسؤولية العقدية للحرفيين والصناع، بحيث تتحقق مسؤولية هؤلاء بمجرد الاخلال بالالتزام دون حاجة لإثبات أخطائهم من لدن المضرور، فالمسؤولية أضحت مفترضة في حقهم خصوصا عندما يتم التعامل بين أشخاص محترفين آخرين ليست لديهم دراية بشؤون الحرفة محل التعامل، وهذا ما ينطبق على كل من الطبيب والمحامي والموثق العدلي والناقل البري.

الفصل الثاني :العناصر اللازمة لتحقق المسؤولية العقدية

كما هو الشأن بالنسبة للمسؤولية التقصيرية فإن المسؤولية العقدية تتطلب شروطا ثلاثة  لقيامها وعي الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما.

المبحث الأول : الخطأ العقدي

يتخذ الخطأ العقدي أكثر من مظهر قانوني يختلف باختلاف نوعية الاخلال الذي ارتكبه المدين، فهو قد يتمثل في امتناع أحد المتعاقدين عن الوفاء بالالتزامات التي تعهد بها، وقد يكون ذلك في شان التأخر في التنفيذ، الامر الذي يتسبب في إلحاق الضرر بالطرف الدائن وإذا كان المشرع المغربي قد اقتصر في الفصل 263 على ذكر هذين المظهرين للإخلال بالالتزام، إلا أن ذلك لا يعني ان تحديده ككان واردا على سبيل الحصر، بدليل أن هناك الكثير من الاشكال الاخرى التي يتحقق فيها الاخلال بالالتزام العقدي، من ذلك مثلا حالة تسليم البائع شيئا معيبا إلى المشتري وهو يعلم مسبقا  بوجود هذا العيب من ذلك أيضا حالة الشخص الذي يبيع العقار مع علمه بأن العقار مهدد بالمصادرة لأجل المصلحة العامة.

وقد يتمثل الاخلال بالالتزام في كتمان الحقيقة وعدم إسداء النصح للمتعاقد معه خصوصا عندما  يتعلق الامر بالعقود التي تكون على جانب من الاهمية، أو التي يكون أحد أطرافها مستهلكا عاديا ممن ليست لديه دراية بشؤون الحرفة محل التعاقد.

فمتى يكون الشخص المخل بالالتزام مسؤولا ؟ وكيف يتم إثبات الخطأ المنسوب إليه ؟ وهل هناك من إمكانية لمساءلته عن أخطاء غيره ؟

أولا : مقياس تحقق الخطأ العقدي

 يخلف مقياس تحقق الخطأ العقدي بحسب ما إذا كان التزام المدين هو التزام بتحقيق نتيجة  obligation de résultat   أو التزام بوسيلة والذي يسمى كذلك التزام ببذل عناية obligation de moyen .

فبمقتضى النوع الاول من هذه الالتزامات فإن المدين لا تبرأ ذمته إلا تحقيق النتيجة المتفق عليها حتى ولو كانت تافهة جدا فالمقول والناقل يلتزمان بتشييد البناء وإيصال المسافر إلى النقطة المتفق عليها وأي إخلال بهذه الغاية إلا ويستوجب التعويض.

أما النوع الثاني من الالتزامات العقدية والتي يلتزم فيها المدين ببذل العناية اللازمة، كالعقد الرابط بين الطبيب والزبون أو الذي يربط هذا الاخير بالمحامي، فإن مضمون الالتزام لا يتحدد منذ البداية في تحقيق نتيجة معينة وإنما مجرد أمل في الحصول على هذه النتيجة، وإخلال الطبيب والمحامي بالتزاماتهما لا يتحقق إلا إذا ثبت الاهمال والتقصير في جانبهما كان يفوت المحامي آجال النقض أو الاستئناف على الزبون بسبب الجهل أو النسيان مثلا، او حالة الطبيب الذي يعطي للمريض علاجا لا يتناسب مطلقا مع سنه أو طبيعة مرضه.

والعناية التي يتعين بذلها في تنفيذ هذا النوع من الالتزامات هي عناية الرجل العادي متوسط الذكاء والفطنة والذي كان برب الاسرة العاقل le bon père de la famille  غير أن الذي يتعين الإشارة إليه هو أن مقياس الرجل العادي يكون منظورا إليه من زاوية المهنة أو الحرفة التي حصل التعامل فيها.

ثانيا : مسألة إثبات الخطأ العقدي

تختلف مسألة إثبات الخطأ العقدي بحسب ما إذا كان الالتزام، بتحقيق نتيجة أو ببذل عناية، ففي الاول كالالتزام الملقى على عاتق الناقل فإن هذا الاخير يكون قد أخل بالتزاماته العقدية، إذا لم تتحقق الغاية التي تعاقد الزبون من أجلها وهي إيصاله إلى المكان المتفق عليه سالما، فالمسؤولية قائمة على افتراض الخطأ في جانب الناقل، ولا يتحلل من المسؤولية إلا بإثبات السبب الاجنبي كالقوة القاهرة أو خطأ المضرور مثلا، فعبء الاثبات في هذا النوع من الالتزامات يقع على عاتق المدين، اما الدائن فعليه أن يحدد نوع الضرر الذي لحق به وأن يبرهن على وجود عقد صحيح يربط بينه وبين المدين بالالتزام.

أما إذا كان العقد من صنف التصرفات التي لا يتحمل فيها المدين أكثر من بذل العناية الرجل العادي، فإن الاخلال بالالتزام لا يتحقق إلا إذا تبث التقصير والاهمال في جانب الملتزم، وعبء هذا الاثبات يقع على عاتق الدائن، وله أن يستعمل في ذلك مختلف وسائل الاثبات باعتبار أن الاخلال بالعقد من المسائل التي يختلط فيها الواقع بالقانون، لذلك فالمنطق يفرض تمكين الدائن كطرف مضرور ان يثبت عملية الاخلال بجميع الوسائل الاثباتية بما في ذلك الشهادة والاقرار والقرائن.

ثالثا : المسؤولية العقدية عن خطأ الغير

يقصد بالمسؤولية العقدية عن فعل الغير تلك المسؤولية التي يتحملها المدين نتيجة الإخلال بالعقد من طرف الأشخاص الذين يرتبطون به بمقتضى علاقات قانونية تستوجب حلوله محلهم في تحمل تبعات أخطائهم متى كانت متصلة بتنفيذ العقد، وللمسؤولية العقدية عن فعل الغير اكثر من مظهر قانوني، وأهم ما تتمثل فيه هذه المظاهر جميعا هو ما يسمى بالعقود من الباطن حيث نكون أمام عقدين الأول أصلي والثاني فرعي أو من الباطن ( sous traitante) كالمقاول الأصلي الذي يعهد لبعض المقاولين الفرعيين في إطار عقود من الباطن بمهمة تنفيذ بعض أجزاء المقاولة، كأشغال النجارة أو الكهرباء ففي مثل هذه الحالات المقاول الأصلي يكون مسؤولا مسؤولية عقدية عن كل الأخطاء الصادرة عن المقاولين الفرعيين إذا كانت مرتبطة بتنفيذ العقد.

 وفي هذا السياق فإن المكتري الأساسي يتحمل نفس المسؤولية اتجاه المكري عن الأخطاء الصادرة عن المكترين الفرعيين وهذا ما ورد عليه النص في الفصل 670 من (ق ل ع ) الذي يؤكد بأن المكتري ضامن لمن تنازل له عن كراء الشيء أو أكراه له تحت يده ويبقى هو نفسه متحملا في مواجهة المكري بكل الالتزامات الناشئة من العقد…”.

رابعا : المسؤولية العقدية عن فعل الشيء

بالرغم من النطاق الضيق للمسؤولية العقدية الناجمة عن الضرر الذي يتسبب فيه الشيء الذي كان محلا للتعاقد إلا أن حالات هذه المسؤولية أصبحت في تزايد مستمر نتيجة الإقبال المكثف على اقتناء الأشياء الخطرة واتساع دائرة الأسواق المركزية والمحلات التجارية التي يقصدها الأفراد بصورة جماعية الأمر الذي قد يتسبب في إلحاق بعض الأضرار الجسدية بالزبناء أثناء عملية الشراء، أو بمناسبتها حتى ولو عدل الزبون المتجول في المتجر  عن الشراء أصلا. وأساس هذه المسؤولية هو أن صاحب المحل التجاري يتحمل بواجب ضمان سلامة الزبون منذ دخوله إلى المحل إلى غاية خروجه منه.

ويدخل ضمن مخاطر الأشياء التي تكون محلا للتعاقد كل الأضرار المترتبة على الأشياء القابلة للانفجار أو الاشتعال بصورة مفاجئة، كأن تنفجر قنينة غاز بسبب عيب في صنع هذه القنينة، الشيء الذي يتسبب في إلحاق الأذى بالمشتري كحالة الرياضي الذي يتعرض للإصابة داخل قاعات إجراء التمارين الرياضية. إلا أن مخاطر هذه المسؤولية تكمن في إمكانية الاتفاق على استبعاد أحكامها بإدراج الشروط المعفية من الضمان أو المخففة منه الشيء الذي قد يحرم المضرور من الحصول على التعويض.

المبحث الثاني : ركن الضرر

الضرر هو الصورة الملموسة التي تتمثل فيها نتائج الخطأ العقدي، وهذا يعني أن الخطأ إذا لم يترتب عنه ضرر فلا مجال لإعمال قواعد المسؤولية العقدية، والضرر هو كل ما يلحق المتعاقد من خسارات مالية وتفويت لفرص الربح بشرط أن يتصل ذلك اتصالا مباشرا بالفعل الموجب لهذه المسؤولية، ويتميز التعويض المستحق عن الضرر العقدي بأنه ذو نطاق محدود جدا فهو يقتصر على الأضرار المباشرة التي كانت متوقعة عند إبرام اعقد، ثم إن أمر تقديره لا زال موكولا للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع.

وبالرغم من ان المشرع المغربي لم ينص في الفصل 264 من ق ل ع على ضرورة تعويض الضرر الأدبي إلى جانب الضرر المادي، إلا أن ذلك لا يعني استبعاد هذا الضرر من حلقة الأضرار القابلة للتعويض في ميدان المسؤولية العقدية، ومن الأمثلة عن الضرر الأدبي الناشئ عن الإخلال العقدي حالة الضرر الذي يتسبب في تشويه الخلقة في مجال الأخطاء الطبية وعقود النقل وبيع الأشياء الخطرة التي من شأنها أن تضر بسلامة المتعاقد وصحته. وساء كان الضرر ماديا أو أدبيا فإنه يتعين فيه أن يكون شخصيا، ومباشرا، ومحققا، ومتوقعا عند إبرام العقد.

1 أن يكون الضرر شخصيا : ينحصر التعويض عن الضرر العقدي في شخص الدائن باعتباره  المتضرر المباشر بفعل الإخلال الذي ارتكبه المدين، وقد أشار المشرع إلى هذا الشرط في الفصل 264 من ق ل ع بقوله :” الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب…”،وإذا كانت القاعدة هي اقتصار التعويض عن المضرور المباشر في العقد، إلا أن ذلك  لا يتعارض مطلقا مع إمكانية انتقال هذا الحق للورثة عن طريق الحلول محل الهالك.

2 أن يكون الضرر مباشرا :يتعين في الضرر أن يكون مباشرا وهذا ما يتحقق بالنسبة للأضرار التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالخطأ العقدي، وهناك إشارة واضحة  من المشرع في الفصل 264 إلى عنصر المباشرة في الضرر وتتجلى في الصيغة التالية :”…متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام “.

3 أن يكون الضرر محققا : والضرر المحقق هو الذي وقع فعلا أو وقعت أسبابه ولكن آثاره تراخت إلى المستقبل وسبب تعويض الضرر المستقبل هو وجود أدلة تؤكد وقوعه لا محالة، أما الضرر المحتمل الوقوع فإنه لا يستوجب التعويض لعدم وجود ما يقطع بحصوله في المستقبل، أما بخصوص ما يسمى بضياع الفرصة فهي تندرج ضمن ما يسمى بفوات الكسب المنصوص عليه في الفصل 264 من ق ل ع إلا أن تقدير مدى أهمية الفرصة وجديتها يعد من الأمور الموكولة دائما لفطنة القاضي ولسوء نية المخطئ دور هام في الرفع من حجم التعويضات المستحقة عن ضياع هذه الفرصة.

4 أن يكون متوقعا عند إبرام العقد :المقصود بالضرر المتوقع هو الذي كان منتظر الحدوث عند إبرام العقد، وخلافا للمسؤولية التقصيرية التي يعوض فيها حتى ولو كان الضرر مباشرا غير متوقع، فإن التعويض في نطاق المسؤولية العقدية يقتصر على الضرر المباشر المتوقع عند إبرام العقد. إلا أن الضرر غير المتوقع إذا نشأ بناء على ممارسة المدين للتدليس أو وقوعه في الخطأ الجسيم الذي لا يغتفر، فإنه يكون موجبا للتعويض وذلك معاملة للمدين بنقيض قصده.

المبحث الثالث : العلاقة السببية بين الخطأ والضرر

لا يكفي لتحقق المسؤولية العقدية أن يكون هناك خطأ وضرر وإنما يلزم أن يكون هذا الخطأ هو الذي تسبب في وقوع الضرر، وإذا كانت العبرة بالسبب المباشر الذي تولد عنه الأضرار، إلا أن باقي الأسباب الأخرى قد يكون لها بعض الدور في حصول الضرر العقدي، الامر الذي يتحتم على القاضي أن يأخذها بعين الاعتبار ولو في حدود النسبة التي ساهمت بها في وقوع الضرر.

 وفي الأحوال العادية للمسؤولية العقدية فإن عبء إثبات العلاقة السببية، يقع على عاتق الدائن الذي يطالب المدين بالتعويض عن الأضرار المترتبة عن الإخلال بالعقد، إلا ان الأمر على خلاف ذلك عندما يتعلق الأمر بالحالات الخاصة أو الاستثنائية لهذه المسؤولية خصوصا تلك اتي تقوم على افتراض المسؤولية في جانب المدين  كالمسؤولية الملقاة على عاتق الناقل البري إذ أن الدائن المطالب بالتعويض في إطار هذا النوع من المسؤوليات التي تقوم على أساس تحقيق نتيجة معينة لا يلزم إلا بإثبات الضرر العقدي،  أما الخطأ فلا يلزم بإثباته لأن المسؤولية قائمة على افتراض الخطأ في جانب المدين،  وعلى هذا الأخير إذا أراد التحلل من الضمان ومن المسؤولية  أن يثبت أن الضرر كان نتيجة لفعل أجنبي لا يد له فيه كالقوة القاهرة والحادث الفجائي والخطأ المنسوب للمضرور أو للغير.

بقي أن نشير إلى أن مسألة استخلاص العلاقة السببية بين الخطأ والضرر تعد من أمور الواقع التي تكون متروكة للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع. بحيث لا يخضعون فيها لرقابة محكمة النقض، ومسألة التقدير هاته تختلف من حالة لأخرى ولحسن نية المدين أو سوء نيته دور كبير في تحديد العلاقة السببية بين الخطأ والضرر، الأمر الذي يسهل مأمورية تحديد التعويض المستحق للطرف المضرور.

الفصل الثالث : الاتفاقات المعدلة للمسؤولية العقدية

خلافا لقواعد المسؤولية التقصيرية التي تعد من النظام العام، وبالتالي فلا مجال للاتفاق على عكس ما قرره المشرع بشأنها من أحكام، فإن الوضع ليس كذلك بالنسبة لقواعد المسؤولية العقدية بحيث إن الأصل في هذا الميدان هو حرية الأطراف المتعاقدة في تعديل أحكام المسؤولية العقدية، سواء تعلق الأمر بتشديد هذه المسؤولية، أو التخفيف منها، وقد يصل ذلك إلى حد إعفاء المدين منها مطلقا، إلا أن هذا الأصل ترد عليه مجموعة من الاستثناءات التي حد فيها المشرع من قدرة الإرادة بخصوص مسألة تعديل قواعد المسؤولية العقدية.

المبحث الأول : مبدأ جواز الاتفاق على تعديل أحكام المسؤولية العقدية

القاعدة العامة في ميدان المسؤولية العقدية هي جواز الاتفاق على تعديل أحكام هذه المسؤولية، ويتخذ هذا الاتفاق اكثر من مظهر قانوني فهو قد يتم عن طريق الزيادة في حجم التعويض المستحق للطرف المضرور في حالة تحقق السبب الموجب للضمان والمسؤولية وقد يتم التعديل بطريقة عكسية، وذلك في الحالات التي يشترط فيها المدين إعفائه من الضمان والمسؤولية كلا او جزءا.

المطلب الأول : الاتفاق عل تشديد المسؤولية والضمان العقدي

ليس هناك ما يمنع الدائن من أن يشترط التشديد في مسؤولية المدين وضمانه، ففي عقد البيع مثلا يمكن للمشتري ان يدرج في العقد شرطا يحمل البائع تبعة ضمان العيوب البسيطة أو الظاهرة، غير إن الاشتراطات التي تهدف إلى تشديد المسؤولية والضمان، هي من الندرة بمكان إذا ما قورنت بغيرها من الاتفاقات المضيقة لهما، ويرجع السبب إلى اعتقاد المتعاقدين بان الضمان القانوني هو أقصى ما يمكن توفيره للطرف الدائن، وكذلك إلى عجز الدائن عن فرض هذه الشروط على الطرف المدين خصوصا عندما يتم التعاقد بين أشخاص محترفين وآخرين ليس لديهم قدرة على التفاوض في هذا المجال، ويتعلق الامر هنا بفئة المستهلكين العاديين.

أما في ميدان المسؤولية العقدية المترتبة على العقود المبنية على المساومة الحرة فالملاحظ أن العادة جرت على إدراج البنود المشددة للمسؤولية الملقاة على عاتق المدين، ويمثل الشرط الجزائي واحدا من أبرز وجوه تشديد هذه المسؤولية في حق المدين حيث يتم الاتفاق على تقدير التعويض بطريقة جزافية قبل حصول الفعل الموجب لاستحقاق التعويض. وقد نص المشرع المغربي صراحة في الفقرة الثانية من الفصل 264  على جواز التعامل  بالشرط الجزائي كوسيلة ناجعة لإرغام المدين على الوفاء بالتزاماته العقدية في الوقت المحدد لها دون مطل أو تأخير.

المطلب الثاني : الاتفاق على تخفيف المسؤولية والضمان العقدي

في مقابل ما سبق، فإن الاتفاق الحاصل بين الأطراف المتعاقدة قد يهدف إلى التخفيف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق المدين، سواء تمثل ذلك في الاعفاء الكلي من هذه المسؤولية أو في مجرد التخفيف من حدتها، كتقليص حجم التعويض أو جعله منحصرا في نوع معين من الأضرار دون غيرها، وهناك نصوص كثيرة في ق ل ع التي تؤكد إمكانية تخفيف المسؤولية والضمان يندرج ضمن شروط التخفيف أيضا تلك التي يهدف المدين من وراءها إلى استبعاد هذه المسؤولية مطلقا كأن يتم التعاقد من غير ضمان أو التعاقد دون التحمل بتبعات المسؤولية في حالة تحقق السبب الموجب لرفع دعوى التعويض.

 ونظرا لخطورة الشروط المعفية من المسؤولية والضمان، فإن صحة هذه الشروط تتوقف على تحقق شرطين وهما :

أولا : أن يكون الدائن على علم تام بمضمون الشرط، وإذا كان الدائن قد تعاقد على مسؤوليته الخاصة، فإنه يتعين على الطرف المدين أن لا يكون عالما بالمخاطر التي جعلت الدائن يتعاقد على حسابه الخاص من غير ضمان لأن علم المدين بالسبب الموجب للضمان والمسؤولية يعد من قبيل سوء النية المسبقة التي توازي الغش والتدليس.

ثانيا :أن لا يكون في الشروط المعفية من المسؤولية والضمان مساس بالصحة العامة للمواطنين، وهكذا فإن مصير الشروط التي يتحلل بمقتضاها المشغل من المسؤولية أثناء مزاولة العمال للشغل يكون هو البطلان نفس هذا الحكم هو الذي ينطبق على شروط عدم الضمان التي يدرجها منتج أو صانع المواد الاستهلاكية أو الاستشفائية  حتى ولو تم إدراج هذه الشروط عن حسن نية.

المبحث الثاني : الاستثناءات الواردة على المبدأ السابق

بالرغم من أن المبدأ العام يقضي بجواز الاتفاق على تعديل أحكام المسؤولية العقدية في إطار مبدأ سلطان الإرادة، إلا أن حرية الأطراف المتعاقدة ليست مطلقة في هذا الميدان، وإنما هي مقيدة بمجموعة من الضوابط القانونية التي تشكل في مجملها ما يسمى بالنظام العام، الذي يعتبر بمثابة قيد يحد من حرية المتعاقدين في مجال الشروط المخففة أو المعفية من المسؤولية والضمان، فما هي أهم الحالات الاستثنائية التي لا يكون فيها لشروط عدم الضمان والمسؤولية من أثر قانوني؟ من خلال الاطلاع على نوعية الشروط المعفية من المسؤولية يمكن القول أن حظرها يرجع إلى أحد الأسباب الثلاثة التالية :

أولا : حالة ارتباط الشرط بإعفاء المدين من التدليس والخطأ الجسيم : ينص الفصل 232 من ق ل ع على أنه:” لا يجوز أن يشترط مقدما عدم مسؤولية الشخص على خطأه الجسيم وتدليسه “. ومرد هذا الحظر يرجع بالدرجة الأولى إلى أن مثل هذه الشروط يكون لها مساس بالنظام العام، لأن القاعدة العامة في الالتزامات هو تنفيذها بحسن نية، والشرط الذي يعفي المدين من التدليس والخطأ الجسيم يكون بمثابة سوء نية يوجب معاملة المدين بنقيض قصده.

ثانيا : حالة مساس الشرط بسلامة وأمن الأفراد : عندما يكون لشرط الاعفاء من المسؤولية والضمان مساس بالصحة والسلامة العامة للمواطنين بما فيهم المتعاقدين، فإن مصير هذا الشرط يكون هو البطلان وينطبق هذا الحكم على كل الشروط التي من شأنها أن تعفي منتجي وصانعي  المواد والبضائع المعدة للاستهلاك الآدمي، وفي ميدان مقاولات البناء فإن المقاول يتعهد بإنشاء بناء سليم وصالح للغاية التي أعد لها سلفا وأي شرط من شأنه إعفاء المقاول من تحمل المسؤولية والضمان إلا ويكون عديم الأثر وقد أشار المشرع إلى هذا المنع في الفصل 772 من ق ل ع بقوله:” يبطل كل شرط موضوعه إنقاص أو إسقاط ضمان أجير الصنع لعيوب صنعه وعلى الأخص إذا كان قد أخفى عن فصد هذه العيوب أو كانت ناشئة عن تفريطه الجسيم “.

ثالثا : حالة مساس الشرط بواجب المحافظة على الأمانات والودائع : إن واجب المحافظة على الامانات والودائع سواء كام مؤدى عنها أم لا، يقتضي من المودع لديه أن يسهر على حفظ الوديعة بنفس العناية التي يبذلها في حراسة أشيائه الخاصة،  وأي تقصير في بذل هذه العناية إلا ويحمله نتائج المسؤولية المترتبة على ذلك، ونظرا لأن احتمال حصول هذا التقصير سيزداد بمجرد إدراج شرط عدم الضمان في صلب العقد، لذلك ودفعا لكل التباس، فإن المشرع المغربي قد بادر إلى إقرار بطلان هذه الشروط المعفية من الضمان والمسؤولية من ذلك مثلا حالة الدائن المرتهن، وكذا حالة أصحاب الفنادق والمقاهي، والمحلات التي يأويها الأفراد كالحمامات والملاهي العمومية، فكل من يتعهد بحراسة الأشياء والأمتعة الخاصة للزبناء إلا ويلتزم بضمانها وتحمل المسؤولية عنها وأي اتفاق على خلاف ذلك إلا ويكون عديم الأثر.

وقبل أن نختم الكلام في موضوع الشروط المعفية من المسؤولية العقدية، فإنه يتعين التأكيد على نقطة هامة وهي ،ن بطلان الشرط المعفي من المسؤولية أو المخفف منها لا يستوجب بطلان العقد الذي كان يتضمن هذا الشرط، نفس العقد سيبقى صحيحا منتجا لآثاره القانونية، ما لم يثبت أن الشرط الباطل كان هو السبب الدافع للتعاقد، إذ أنه نظرا لعدم إمكانية فصل الشرط عن العقد في هذه الحالة فإن البطلان يشمل الشرط والعقد معــــــــــــــــــــــــا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

"لا تقرأ وترحل شاركنا رأيك"

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من أنفاس قانونية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading