شروط إنشاء العقد
شروط إنشاء العقد
إنشاء العقد هو تكوينه بين طرفيه، وحتى يكون العقد بصورة صريحة وينتج آثاره القانونية،,هناك شروط يجب أن تتوفر . وقد عدد قانون الالتزامات والعقود هذه الشروط في المادة الثـــــــــــــانية منه.
وحسب المادة المذكورة الشروط اللازمة لإنشاء عقد صحيح هي أربعة شروط :
1ـــ أهلية المتعاقدين 2ـــ تعبير صحيح عن الإرادة يقع على العناصر الأساسية للالتزام التعاقدي 3ـــ شيء محقق يصلح لان يكون محلا للالتزام المتولد عن العقد 4ـــ سبب مشروع للالتزام المذكور.
ولما كانت بعض العقود تتطلب علاوة على هذه الشروط، توفر شرط آخر هو شرط الشكلية في العقود الشكلية وشرط التسليم في العقود العينية، فإنه لا بد من إضافة هذا الشرط إلى الشروط الأربعة التي ذكرها القانون.
وعليه سيتضمن هذا الفصل خمسة فروع :
الفرع الأول : التراضي
الفرع الثاني : الأهلية
الفرع الثالث: المحل
الفرع الرابع: السبب
الفرع الخامس: ركن الشكلية في العقود الشكلية وركن التسليم في العقود العينية
الفرع الأول : التراضـــــــــــــــــــــــي
التراضي هو توافق إرادتي المتعاقدين على إحداث الأثر القانوني المتوخى من العقد ويتحقق هذا التوافق قانونا بتبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين. ويكون ذلك بصدور إيجاب offre يتضمن عرضا يوجهه شخصا لأخر وصدور قبول مطابق للإيجاب من الشخص الذي وجه إليه العرض acceptation فيقترن القبول بالإيجاب ويحصل التراضي وبذلك يتم العقد.
ويقتضي البحث في التراضي أن نعرض لكيفية التعبير عن الإرادة ثم للإيجاب، ثم للقبول، ثم للاقتران الإيجاب بالقبول.
ولما كان لا بد في التراضي حتى ينتج آثره القانوني، من أن يكون صحيحا أي سليما لا يشوبه عيب من عيوب الرضى، فإنه يتعين علينا أن نختم الكلام في التراضي ببحث نخصصه لعيوب الرضى. وعليه سيتضمن هذا الفرع المباحث التالية :
المبحث الأول : كيفية التعبير عن الإرادة
المبحث الثاني : الإيجـــــــــــــــــــاب
المبحث الثالث : القبــــــــــــــــــــول
المبحث الرابع : اقتران القبول بالإيجاب
البحث الخامس : عيوب الرضى
المبحث الأول : كيفية التعبير عن الإرادة
التعبير عن الإرادة يكون صريحا أو ضمنيا : لم يحتم المشرع للتعبير عن الإرادة مظهرا خاصا، لأن مقتضى مبدأ الرضائية السائد اليوم لا يخضع التعبير لشكل معين وأن يترك للمتعاقد الحرية في الإفصاح عن إرادته بالطريقة التي يستنسبها. وعلى الأغلب يكون التعبير عن الإرادة صريحا. ولكنه في بعض الحالات يكون ضمنيا.
فالتعبير الصريح هو الذي يفصح عن الإرادة بطريقة مباشرة أي الذي يحصل بوسيلة تكشف عن الإرادة حسب المألوف بين الناس، كأن يجري التعبير باللفظ أو الكتابة أو الإشارة المتداولة عرفا.
أما التعبير الضمني فهو الذي يفصح عن الإرادة بطريقة غير مباشرة أي بوسيلة يمكن أن تستنبط منها دلالة التعبير في ضوء ظروف الحال، كما لو بقي المستأجر بعد انتهاء الإيجار منتفعا بالمأجور بعلم المؤجر ودون اعتراض منه.
هل يعتبر السكوت تعبيرا ضمنيا عن الإرادة ؟
القاعدة في هذا الصدد أن السكوت مبدئيا لا يعتبر قبولا، على أن فقهاء الشريعة اعتبروا السكوت تعبيرا عن القبول على سبيل الاستثناء عندما تحفه ظروف تجعل فيه هذه الدلالة فقالوا :”إن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان “، وتماشيا مع هذا القول نص قانون الالتزامات والعقود في المادة 25 على أن “السكوت عن الرد يكون بمثابة القبول إذا تعلق الإيجاب بمعاملات سابقة بدأت فعلا بين الطرفين “.
المبحث الثاني : في الإيجــــــــــــــــــــــاب
الإيجاب هو التعبير عن إرادة شخص يعرض على غيره أن يتعاقد معه، وقد يكون الإيجاب موجها إلى شخص معين كما لو عرض زيد بيع عقار يملكه على عمرو ، وقد يكون موجها إلى أي شخص كان من الجمهور كما في عرض تاجر بضاعة في محله مكتوبا ثمنها عليها.
التمييز بين الإيجاب وبين الدعوة إلى التعاقد : يجب التمييز بين الإيجاب وبين العرض المتضمن مجرد الدعوة إلى التعاقد والذي لا يشتمل كالإيجاب على العناصر الجوهرية للعقد المراد إبرامه .مثال العرض المتضمن مجرد الدعوة إلى التعاقد النشرات التي تصدرها شركات السياحة وتعلن فيها عن برامج لرحلات بتعرفة محددة .فإذا استجاب الشخص إلى دعوة للتعاقد من هذا القبيل فلا تعتبر استجابته قبولا ينعقد به العقد ،بل تكون إيجابا يستطيع صاحب الدعوة أن يقبله او يرفضه .
وجدير بالذكر ان المشرع المغربي قد نص في المادة 32 على ان إقامة المزاد (أي المزايدة )لا تشكل إيجابا بل هي تعتبر بمثابة دعوة إلى التعاقد ،فإذا تقدم أحد بعطاء فيعتبر ذلك إيجابا منه ،وكل عطاء يسقط بعطاء لاحق يزيد عليه ولو كان هذا العطاء اللاحق باطلا أو قابلا للإبطال .
ولا يلتزم صاحب المزاد بالعطاء الأخير إلا إذا قبل به .فإذا قبل رسى المزاد على المزاود الاخير وتم العقد .
هل للإيجاب قوة إلزامية ؟
الأصل في النظر القانوني ان الإيجاب ليس له بحد ذاته قوة إلزامية ، وأن للموجب ان يرجع عن إيجابه ما دام لم يقترن به قبول ،أو ما دام الطرف الآخر الذي وجه إليه الإيجاب لم يشرع في تنفيذ العقد وهذا ما نصت عليه المادة 26 بقولها :”يجوز الرجوع عن الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول ،أو بالشروع في تنفيذه من الطرف الآخر “.
على ان المشرع اعتبر الإيجاب ملزما على وجه الاستثناء في الحالتين التاليتين:
أولا : إذا كان الإيجاب مقترنا بأجل للقبول حيث يظل الموجب ملتزما بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الأجل .وقد نصت على هذه الحالة المادة 29 فقالت “من يتقدم بإيجاب مع تحديد أجلا للقبول يبقى ملتزما اتجاه الطرف الآخر إلى انصرام الأجل. ويتحلل من إيجابه إذا لم يصله رد بالقبول خلال الاجل المحدد”.
ثانيا : إذا كان الإيجاب تم بطريق المراسلة دون تحديد أجل حيث يظل الموجب ملتزما بالبقاء على إيجابه إلى الوقت الذي يتسع لوصول قبول يكون قد صدر في وقت مناسب وفي ظروف عادية ما لم يكن الموجب قد أوضح لمن وجه إليه الإيجاب انه لا يرغب انتظار المدة التي تستغرقها المراسلة العادية _كأن يكون طلب في إيجابه أن يحصل الرد بالقبول هاتفيا او برقيا حيث يستطيع الموجب التحلل من إيجابه دون انتظار انقضاء هذه المدة.
وهذا ما ورد عليه النص في الفقرة الأولى من المادة30 وبمقتضاها “من تقدم بإيجاب عن طريق المراسلة من غير أن يحدد أجلا ،بقي ملتزما به إلى الوقت المناسب لوصول رد المرسل إليه داخل أجل معقول ما لم يظهر بوضوح من الإيجاب عكس ذلك .
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا انقضى الاجل أو فاتت المدة المعقولة دون وصول القبول إلى الموجب ،فإن هذا الأخير لا يكون ملتزما ويتحلل من إيجابه ،حتى ولو كان من وجه إليه الإيجاب قد بعث بقبوله في الوقت المناسب وتأخر وصوله إلى الموجب لسبب من الأسباب ،على ان يبقى في هذه الحالة لمن وجه إليه الإيجاب أن يطالب الجهة المسؤولة عن التأخير بالتعويض عما لحقه من ضرر .وقد نصت على ذلك الفقرة الثانية من المادة 30 بقولها :”إذا صدر التصريح بالقبول في الوقت المناسب ولكن لم يصل إلى الموجب إلا بعد انصرام الأجل الذي يكفي عادة لوصوله إليه ،فإن الموجب لا يكون ملتزما، مع حفظ حق الطرف الأخر في المطالبة بالتعويض من المسؤول قانونا “.
سقوط الإيجاب : إن الإيجاب بعد أن يكون قد أنتج آثاره بعد وصوله إلى علم من وجه غليه ،يمكن أن يتناوله السقوط ، ويتم هذا السقوط بأحد الأسباب التالية :
أولا : يسقط الإيجاب برفضه من قبل من وجه إليه .ففي هذه الحالة يسقط الإيجاب سواء كان ملزما او غير ملزم ،و الرفض يمكن أن يتخذ صورا مختلفة :فقد يكون رفضا مجردا وقد يكون إيجابا جددا يعارض الإيجاب الاول ،وقد يتخذ شكل قبول مقترن بشرط او قيد أدخل على الإيجاب فيعتبر بمثابة إيجاب جديد من قبل من وجه إليه الإيجاب الأول .
ثانيا : ويسقط الإيجاب بانقضاء المدة المعينة للقبول صراحة من قبل الموجب نفسه أو ضمنا إذا كان الإيجاب تم بطريق المراسلة .
ثالثا : ويسقط الإيجاب إذا مات الموجب أو أصبح فاقد الاهلية أو ناقصها ،كما إذا حجر عليه لجنون أو سفه ،واتصل ذلك بعلم من وجه إليه الإيجاب قبل أن يقبله ،اما إذا وقع قبول من وجه إليه الإيجاب قبل علمه بموت الموجب او بفقد أهليته أو نقصها ،فغنه يعتد بهذا القبول ويبرم العقد .وبهذا قالت المادة 31 “موت الموجب أو نقص أهليته إذا طرا بعد إرسال إيجابه لا يحول دون اتمام العقد ،إن كان من وجه إليه الإيجاب قد قبله قبل علمه بموت الموجب أو بفقد أهليته “.
المبحث الثالث : في القبــــــــــــــــــــــــــول
القبول هو التعبير عن إرادة من وجه إليه الإيجاب والذي بصدوره متطابقا للإيجاب تتم معه عملية التعاقد بين الموجب pollicitant وبين القابل acceptant .والقبول يجب ان يتصف دوما بصفة الفردية il a un caractère individuel بحيث يجب أن يوجه إلى شخص الموجب بالذات .
طرق التعبير عن القبول : إن التعبير عن القبول لا يخضع لشكل معين فيمكن ان يكون صريحا كما يمكن ان يكون ضمنيا على انه لابد من بيان ملاحظتين :
N.B1 خلافا للقاعدة التي تقضي بأنه لا يترتب على ساكت قول ،فإن القبول قد يتم استثناء بطريق السكوت في الحالة التي يتعلق فيها الإيجاب بمعاملات سابقة بدأت فعلا بين الطرفين المادة25 ، او في الحالة التي يكون تمخض فيها الإيجاب لمصلحة من وجه إليه .
N.B2 إن شروع من وجه إليه الإيجاب في تنفيذ العقد يقوم مقام القبول في الحالة التي تكون فيها طبيعة المعاملة تدل على ان الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول أو يكون العرف التجاري لا يقتضي مثل هذا الرد .
وقد نصت على ذلك المادة25 فقالت “عندما يكون الرد بالقبول غير مطلوب من الموجب أو عندما لا يقتضيه العرف التجاري فإن العقد يتم بمجرد شروع الطرف الآخر في تنفيذه “.
شروط القبول : يشترط في القبول حتى ينعقد به العقد توافر شرطين .
الشرط الأول : يجب أن يصدر القبول في وقت يكون فيه الإيجاب قائما .اما إذا كانت المدة المحددة للإيجاب صراحة أو ضمنا قد انتهت ،أو كان مجلس العقد قد انفض، أو كانت المكالمة الهاتفية قد انقطعت دون أن يصدر خلالها القبول .أو كان الإيجاب قد سقط بسبب من أسباب السقوط كموت الموجب أو فقده أهليته أو نقصها واتصل ذلك بعلم من وجه إليه الإيجاب قبل أن يقبله ،فإن القبول الذي يأتي بعد ذلك لا يبرم به العقد ،بل يشكل إيجابا جديدا يستطيع من وجه إليه أن يقبله أو يرفضه .
الشرط الثاني : يجب أن يكون القبول مطابقا للإيجاب تمام المطابقة .اما إذا تضمن شروط غير تلك التي وردت في الإيجاب أو اقترن بقيود أضافها من وجه إليه الإيجاب ،فإن التعاقد لا يتم لان القبول غير المطابق للإيجاب يعتبر رفضا له ويشكل إيجابا جديدا ،وهذا ما أوضحته المادة 27 بقولها :”الرد المعلق على شرط أو المتضمن قيدا يعتبر بمثابة رفضا للإيجاب متضمنا إيجابا جديدا .”
والقبول يعتبر مطابقا للإيجاب ،إذا ما أعلن من وجه إليه الإيجاب أنه قابل به أو إذا ما بادر إلى تنفيذ العقد دون تحفظ ،وقد وجد المشرع المغربي أن يشير إلى ذلك صراحة فنص في المادة 28 على ان :”الرد يعتبر مطابقا للإيجاب إذا اكتفى المجيب بقوله قبلت أو إذا نفذ العقد دون تحفظ”.
المبحث الرابع : في اقتران القبول بالإيجاب
لا يكفي لتمام العقد أن يصدر إيجاب وقبول متطابقان ،بل يجب أن يقترن القبول بالإيجاب .وتختلف صور اقتران القبول بالإيجاب باختلاف طرق التعاقد .فالتعاقد قد يكون بين طرفين حاضرين يضمهما مجلس واحد ،”مجلس العقد “،وقد يتم بالمراسلة ،وقد يحصل بواسطة رسول أو وسيط يحمل الإيجاب إلى من وجه إليه وقد يجري بالهاتف .وكل طريقة من هذه الطرق لها أحكامها .غير أنها جميعا تخضع لبعض القواعد العامة .
فعلينا إذن أن نبين هذه القواعد العامة ،قبل أن نتناول بالبحث التعاقد بين حاضرين ثم التعاقد بالمراسلة ثم بواسطة رسول أو وسيط ثم بالهاتف .
قواعد عــــــــــــــــــــامة :توجد قواعد عامة يجب تطبيقها على سائر العقود سواء تم التعاقد بين حاضرين أم تم بين غائبين وأيا كانت وسيلة المخاطبة التي استعملها الغائبون .
وهذه القواعد العامة التي حرص المشرع إلى التنبيه إليها هي القواعد التالية :
أولا : يجب أنه يشمل تراضي الطرفين العناصر الأساسية للعقد .وهذا ما أكد الفقرة الأولى من المادة 19 بقولها :”لا يتم الاتفاق إلا بتراضي الطرفين على العناصر الأساسية للالتزام وعلى باقي الشروط المشروعة الأخرى التي يعتبرها الطرفين أساسية “.
ثانيا : إذا أقدم الطرفان فور إبرامهما اتفاقا ما على إجراء تعديلات على هذا الاتفاق ،كان يكون تضمن العقد الذي أبرم بين البائع والمشتري اداء الثمن دفعة واحدة ،ثم اتفق الطرفان في نفس مجلس العقد على ان يؤدى الثمن أقساطا .فإن هذا الاتفاق لا يعتبر عقدا جديدا قائما بذاته جاء معدلا لعقد سابق ،بل إنما يعتبر جزء لا يتجزأ من العقد القديم و من صلبه هذا ما لم يصرح الطرفان عكس ذلك .فالفقرة الثانية من المادة 19 نصت على ان “التعديلات التي يجريها الطرفان بإرادتهما على الاتفاق فور إبرامه لا تعتبر عقدا جديدا ،وإنما تعتبر جزءا من الاتفاق القديم وذلك ما لم يصرح بخلافه “.
ثالثا :إذا وقع تراضي الطرفين على بعض شروط العقد واحتفظ الطرفان صراحة بشروط أخرى معينة لتكون مدار اتفاق لاحق فإن العقد لا يتم والشروط التي تم الاتفاق عليها تبقى نفسها مجردة من أي أثر قانوني ،حتى لو حررا الطرفان ما تم الاتفاق عليه كتابة .وبهذا المعنى قررت المادة 20 ما يلي :”لا يكون العقد تاما إذا احتفظ المتعاقدان صراحة بشروط معينة لتكون موضوعا لاتفاق لاحق .وما وقع الاتفاق من شروط او شرط والحالة هاته لا يترتب عليه التزام ولو حررت مقدمات الاتفاق كتابة “.
رابعا :العبرة في التراضي للإرادة الظاهرة (volonté externe ) التي اطمئن إليها كل من الموجب والطرف الآخر الذي قبل الإيجاب ،لا إلى الإرادة الباطنة (volonté interne ) الكامنة في النفس والتي ليس بالوسع الإحاطة بها ،وعليه فالتحفظات والقيود التي يحتفظ بها أحد المتعاقدين في قرارة نفسه والتي لا تتصل بعلم المتعاقد الآخر ،لا يعتد بها ولا تؤثر على ما تم عليه الاتفاق بمقتضى الإرادة الظاهرة .وهذا ما أوضحته المادة 21 بقولها :”التحفظات والقيود التي لم تنه إلى علم الطرف الآخر لا تنقض ولا تقيد آثار التعبير عن الإرادة المستفاد من ظاهر اللفظ “.
التعاقد بين حاضرين :إذا جرى التعاقد بين حاضرين ،يجب ان يصدر القبول في مجلس العقد .
والمقصود بمجلس العقد الفترة الزمنية التي تمتد بعد الإيجاب والطرفان فيها مقبلان على التعاقد دون إعراض من أحدهما عنه ،ويظل مجلس العقد بهذا المعنى قائما طالما بقي الطرفان منشغلين بالتعاقد ،وينفض إذا انصرف الطرفان أو أحدهما أو إذا صرف أحدهما أوكليهما عن التعاقد شاغل آخر حتى ولو ظل يجمعهما مكان واحد .
فإذا جمع المتعاقدين مجلس واحد ،يكون على من وجه غليه إيجاب غير مقترن بميعاد للقبول ،أن يصدر قبوله قبل انفضاض المجلس او الانصراف عنه ،وإلا حق للموجب ان يتحلل من إيجابه .وهذا ما نصت عليه الفقرة الاولى من المادة 23 إذ قالت :”الإيجاب الموجه إلى شخص حاضر من غير تحديد ميعاد ،يعتبر كان لم يكن ،إذا لم يقبل على الفور من الطرف الآخر “.
التعاقد بين غائبين بالمراسلة :التعاقد بين غائبين بالمراسلة هو الذي يتم بين متعاقدين لا يضمهما مجلس واحد ويجري بتبادل الرسائل بين الموجب من جهة والقابل من جهة ثانية ،كان يرسل تاجر من فاس رسالة إلى تاجر في الرباط يعرض عليه فيها بيع بضاعة بشروط معينة ويجيب التاجر في الرباط برسالة يضمنها قبوله الشراء بالشروط المعروضة .
وهنا يطرح سؤالان :الاول يتعلق بالزمان الذي تم فيه العقد .والثاني يرتبط بالمكان الذي يهتبر ان العقد قد انعقد فيه .ويترتب على تحديد زمان العقد ومكانه نتائج هامة :
فمعرفة زمان العقد يتوقف عليها تحديد مبدأ ترتب آثاره التي عقد من أجلها ،وكذلك تحديد القانون الواجب التطبيق عند تنازع القوانين الزماني .بينما معرفة مكان العقد تتوقف عليها معرفة القانون الذي يسوده عن تنازع القوانين المكاني كما يتوقف عليها أحيانا تعيين المحكمة المختصة للنظر في النزاع الذي يقوم بشأنه.
وقد انقسمت القوانين في الإجابة على السؤالين المتعلقين بمعرفة زمان ومكان انعقاد العقد الذي يتم بالمراسلة فبعضها أخذ بالمذهب المعروف بمذهب “إعلان القبول “او “التصريح بالقبول “(système de la déclaration) واعتبر ان العقد يتم في الزمان والمكان الذي الذين يعلن فيهما من وجه إليه الإيجاب عن قبوله .وبعضها أخذ بالمذهب المعروف بمذهب” العلم بالقبول ” (système de l’information )واعتبر أن العقد لا يتم إلا في الزمان والمكان الذين يصل فيهما القبول إلى علم الموجب .
وقد أخذ قانون الالتزامات والعقود المغربي بنظرية التصريح بالقبول وقر في المادة 24 ان” العقد الحاصل بالمراسلة يكون تاما في الوقت والمكان الذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب بقبوله “
ولكنه لابد من لفت النظر إلى أن اعتبار العقد تاما في الوقت الذي يرد فيه من تلقى الإيجاب بقبوله يبقى معلقا على شرط واقف ،وهو وصول الرد بالقبول إلى الموجب قبل انصرام الوقت المناسب الذي يكفي عادة لوصوله إليه (المادة 30) أو قبل انقضاء الأجل الذي يكون الموجب قد حدده للقبو ل(المادة 29).
فغذا تحقق الشرط ووصل الرد بالقبول في الوقت المناسب أو داخل الأجل المحدد ،قام العقد بصورة نهائية وانتج آثاره منذ صدور القبول عن الموجب .أما إذا تخلف الشرط ولم يصل الرد بالقبول في الوقت المناسب أو خارج الاجل المحدد فإن الموجب يتحلل من إيجابه ولا يستطيع القابل التمسك بهذا الإيجاب لسقوطه .وسقوط الإيجاب يحول طبعا دون قيام العقد على ان يبقى في هذه الحالة للقابل حق مقاضاة المسؤول عن التأخير ،بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء حرمانه الاستفادة من العقــــــــــــــــــــــــد.
التعاقد بين غائبين بواسطة رسول أو وسيط : التعاقد بين غائبين بواسطة رسول أو وسيط يشبه التعاقد بين غائبين بالمراسلة شبها تاما .فطبيعي ان تكون الأحكام واحدة في هاتين الطريقتين من التعاقد .وعلى هذا بعد أن نصت الفقرة الاولى من المادة 24 على ان العقد الحاصل بالمراسلة “يتم في الوقت والمكان اللذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب بقبوله “.أوضحت الفقرة الثانية منها أن العقد الحاصل بواسطة رسول أو وسيط “يتم في الوقت و المكان اللذين يقع فيهما رد من تلقى الإيجاب من الوسيط بأنه يقبله “.
التعاقد بالهاتف : لقد اعتبر ق. ل. ع .المغربي التعاقد بالهاتف كالتعاقد بين حاضرين من حيث الزمان إذ هو بعد أن نص في الفقرة الأولى من المادة 23 على أن “الإيجاب الموجه إلى شخص حاضر …يعتبر كأن لم يكن إذا لم يقبل على الفور من الطرف الآخر “.قرر في الفقرة الثانية من المادة نفسها وجوب سريان هذا الحكم “على الإيجاب المقدم من شخص إلى آخر بطريق التليفون “.
أما من حيث مكان انعقاد العقد بالهاتف فإن المشرع المغربي قد التزم الصمت ولم يعرض للموضوع ،وفي الواقع لما كان المتعاقدان بالهاتف يختلف مكان أحدهما عن الآخر ،فإن وضعهما وضع متعاقدين غائبين ،وانطلاقا من هذا الاعتبار وتأسيسا على ان المشرع المغربي قد أخذ بمذهب انعقاد العقد بين غائبين بمجرد إعلان القبول ،فإنه يتعين القول بأن العقد بالهاتف يعتبر منعقدا في مكان القابل .
المبحث الخامس: عيوب الرضى
التمييز بين فقدا ن الرضى و بين الرضى المعيب : لا بد في مستهل البحث في عيوب الرضى من التمييز بين الحالة التي يكون فيها الرضى مفقودا وبين الحالة التي يكون فيها الرضى موجودا ولكنه معيب غير سليم .
ففي الحالة الأولى كما لو كان المتعاقد صغيرا غير مميز مثلا ،ينتفي وجود الرضى ويفقد العقد ركنا من أركان انعقاده وهو الأهلية يفقع باطلا (nul).
أما في الحالة الثانية فالرضى يوجد ،ولكن إرادة أحد المتعاقدين لم تكن حرة سليمة ولم تصدر عن بينة واختيار ،لذا فالعقد استجمع أركانه وتم انعقاده ولكنه لا يلزم من عيبت إرادته فهو عقد قابل للإبطال (annulable ).
وعيوب الرضى بحثها المشرع في المواد من39إلى 56 مرتبة على النحو التالي :الغلط فالإكراه فالتدليس فحالة المرض والحالات الأخرى المشابهة ،فالغبن .
ونحن نرى تعديل هذا الترتيب بحيث نقدم التدليس على الإكراه ،ونقدم الغبن على حالة المرض والحالات الاخرى المشابهة :فتقديم التدليس على الإكراه مرده المصلحة في عرض أحكام التدليس مباشرة بع الغلط نظرا للشبه بين هذين العيبين القائمين كليهما على فكرة الوهم المتولد في ذهن من تعاقد تخت وطأتهما .وتقديم الغبن على حالة المرض والحالات الاخرى المشابهة مبعثه الرغبة في وصل بحث الغبن ببحث الغلط والتدليس و الإكراه لكون هذه العيوب الأربعة تشكل عيوب الرضى التقليدية ،فضلا عن أن العيب الناجم عن حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة يقودنا إلى التطرق لنظرية الغبن الاستغلالي التي يحسن الكلام فيها بعد عرض الغبن العادي .
وعليه فإننا سنبحث عيوب الرضى في خمسة مطالب مرتبة كما يلي:
الغلط، ثم التدليس، لننتقل إلى الإكراه، فالغبن، وأخيرا حالة المرض و الحالات الأخرى المشابهة.
المطلب الأول : في الغــــــــــــــــلط
الغلط هو توهم يصور لشخص الواقع على خلاف حقيقته ويدفعه إلى التعاقد .فمتعاقد تحت وطأة الغلط يقوم إذن لديه تصور كاذب للواقع يحمله على إبرام عقد ما كان ليبرمه لو وقف على حقيقة الامر .
وقد ظفر الغلط في التشريع المغربي بتنظيم واف إذ خصه المشرع بست مواد هي المواد 40 حتى 45 حيث عرض لحالة الغلط في القانون ثم لحالة الغلط في الواقع (وهي :حالة الغلط في الشيء وحالة الغلط في شخص المتعاقد وحالة الغلط في الحساب )،ثم أخيرا لحالة الغلط الذي يقع من الوسيط .
ويقتضي بحث الغلط أن نعرض أولا لأنواعه بحسب الآثار المترتبة عليه ،ثم نبين مختلف حالات الغلط التي عرض لها المشرع المغربي ثانيا .
أولا :أنواع الغلط بحسب الآثار المترتبة عليه
الغلط بحسب الآثار التي تترتب عليه على ثلاثة أنواع :غلط مانع يعدم الإرادة ويمنع انعقاد العقد أصلا ،وغلط مسبب للإبطال يعيب الإرادة ليس إلا ويجعل العقد قابل للإبطال ،وغلط غير منتج في تعييب الإرادة ولا يؤبه له من حيث صحة العقد .
الغلط المانع :هو الغلط الذي ينتفي معه الرضى ويمنع انعقاد العقد من أساسه .وهو يرد في الحالات التالية :
آ – إذا وقع الغلط في ماهية العقد .كأن تنصرف نية شخص إلى التعاقد على شراء مال بينما المتعاقد الآخر يعتقد أن العملية عملية كراء ليس إلا .
ب _ إذا تعلق الغلط بوجود المحل المتعاقد عليه أو في ذاتيته كأن يقع البيع على شيء يعتقده البائع موجودا بينما هو هالك ،او كأن يبيع شخص دارا معينة فيعتقد المشتري أنه إنما يشتري دارا غيرها
ج _ إذا وقع الغلط في سبب الالتزام كان يتعهد الوارث بتسليم شيء موصى به إلى الموصى له تنفيذا للوصية ،ثم يتبين أن الوصية ملغاة بوصية لاحقة .
فهذه الحالات من الغلط خارجة عن موضوع عيوب الرضى الذي نحن بصدده لأنها تنفي الرضى من أساسه ولا تعيبه عيبا فقط .
ولقد كان موقف المشرع المغربي سليما عندما تحاشى وهو يبحث في الغلط كعيب من عيوب الرضى، ذكر الغلط الواقع في ماهية العقد أو في وجود المحل المتعاقد عليه او في سبب الالتزام .ولن موقفه لم يكن كذلك عندما أقدم في المادة 41 على حشر الغلط الواقع في ذاتية الشيء مع أنواع الغلط الأخرى التي تعيب الرضى ،ولعل المشرع قصد بالغلط الواقع على “ذاتية الشيء” الغلط الواقع في مادته .فهذا هو التعبير الاقرب إلى الصحة .
الغلط المسبب للإبطال :هو الغلط الذي يعيب الإرادة ليس إلا ويجعل العقد قابلا للإبطال .ويكون الغلط كذلك في الحالات التالية :
آ_ حالة الغلط في القانون
ب_ حالة الغلط في مادة الشيء المتعاقد عليه أو في نوعه أو في صفة جوهرية فيه .
ج_ حالة الغلط في ذات أحد المتعاقدين أو في صفة جوهرية فيه عندما تكون هذه الذات او هذه الصفة محل اعتبار خاص .وهذا النوع من الغلط هو الذي يشكل موضوع بحثنا .
.الغلط غير المنتج أو غير المجدي erreur indifférente :هو غلط لا يعتد به كعيب للرضى ولا يمس صحة العقد .ويكون الغلط كذلك في الحالات التالية :
آ_إذا تناول صفة غير جوهرية أي صفة ثانوية أو عرضية في الشيء المتعاقد عليه .
ب_ إذا تناول الغلط شخص العاقد أو صفته في الحالة التي لا تكون فيها شخصيته أو صفته محل اعتبار في التعاقد كما يحصل عادة في أكثر العقود بعوض .
ج_ إذا تناول الغلط قيمة الشيء .فإذا ما باع شخص شيئا قيما بثمن زهيد لأنه يجهل قيمته ،فإن مثل هذا الغلط لا يؤثر في صحة العقد ولا يمكن أن يكون سببا لايطاله ما لم يرافقه غلط في صفة جوهرية في الشيء ،أو ما لم يصل التفاوت حد الغبن ،حيث يجوز عندها إبطال العقد إذا كان الغبن قد رافقه التدليس او كان الطرف المغبون قاصرا أو ناقص الأهلية (المادة 55 والمادة 56 من ق ل ع ) .
د_ إذا تناول الغلط مجرد البواعث التي حملت المتعاقد على التعاقد .فالغلط في البواعث يسبق العقد ويتعلق بأمور شخصية محضة ومجهولة على الأغلب من المتعاقد الآخر .لذا كان من الطبيعي ألا يتأثر العقد بمثل هذا النوع من الغلط .
ذ_ إذا كان الغلط غلطا ماديا صرفا كما في حالة الغلط في الحساب .فمثل هذا الغط لا يؤثر في صحة العقد الذي تسرب إليه وغنما يصحح الغلط على ما أوضحته المادة 43 من ق ل ع .
ثانيا :مختلف حالات الغلط التي عرض لها المشرع المغربي
آ _ حالة الغلط في القانون :
نصت المادة 40 من ق ل ع على ان الغلط في القانون يخول إبطال الالتزام .
والغلط في القانون يهدف إلى التحلل من عقد أبرم في ظروف جعلت أحد المتعاقدين يعتقد الواقع القانوني خلاف ما هو عليه فيتعاقد على أساس هذا الواقع الخاطئ وتعاب إرادته .ويسوغ لمن وقع في الغلط في القانون الادعاء بأن رضاه كان معيبا وان يطعن في الذي صدر عنه نتيجة هذا الغلط مطالبا إبطاله .إنما لا بد لتقرير الإبطال من توافر الشروط الآتي بيانها :
شروط الإبطال للغلط في القانون :بالرجوع إلى المادة40 من ق ل ع يتبين انه يجب لإبطال الالتزام لغلط في القانون توفر شرطين :الشرط الأول أن يكون الغلط هو السبب الوحيد أو الأساسي الذي حمل على التعاقد ،والشرط الثاني أن يكون الغلط مما يمكن العذر عنه .يضاف إلى هذين الشرطين شرط ثالث هو أن لا يوجد ثمة نص قانوني يمنع الطعن بسبب الغلط في القانون في حالة معينة .
الشرط الاول :يجب أن يكون الغلط هو السبب الوحيد أو على الأقل السبب الأساسي الذي دفع إلى التعاقد ،بمعنى أن المتعاقد لو تكشف له الغلط لامتنع عن إبرام العقد .
الشرط الثاني :يجب ان يكون الغلط مما يعذر عنه .وذلك بأن يصدر عن شخص أمي بلغ من السن عتيا ولا يفقه من أمور الدنيا شيئا .
الشرط الثالث :يجب حتى يكون الغلط في القانون مسوغا إبطال العقد ،أن لا يوجد ثمة نص قانوني يحول دون الإبطال في حالات معينة ،إذ عندها ،يمتنع الاعتداد بالغلط والطعن بالتصرف على أساسه .مثال ذلك ما ورد عليه النص في المادة 73 وفي المادة 1112من ق ل ع المغربي .فبمقتضى المادة73 إذا قام شخص متمتع بأهلية التصرف على سبيل التبرع بدفع مبلغ من المال تنفيذا للالتزام معنوي أو سدادا لدين سقط بالتقادم ،وهو يعتقد عن غلط أنه ملزم بالدفع أو وهو يجهل واقعة التقادم ،فإنه يمتنع عليه التمسك بالغلط في القانون للإبطال التصرف الذي أجراه واستردا ما دفع .وبمقتضى المادة 1112 لا يمكن الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون
ب_ حالة الغلط في الشيء :
قرر المشرع المغربي في المادة 41 جواز إبطال العقد للغلط “إذا وقع على مادة الشيء أو على نوعه أو لعى صفة كانت هي السبب الدافع إلى الرضاء “.ومن امثلة الغلط الواقع في مادة الشيء أن يشتري أحد ختما ظنه من البلاتين ثم ظهر أنه من الفضة .وفي نوعه أن يشتري تاجر سلعة على أنها من النوع الممتاز وإذ هي من النوع الرديء ،وفي صفة جوهرية فيه أن يشتري شخص آنية ذهبية على انها أثرية ثم يتضح أنها ليست أثرية .
وتجدر الإشارة إلى أن الفقه والقضاء مجمع- رغم سكوت المشرع – على عدم الاعتداد بالغلط عامة إلا إذا كان مشتركا أو كان المتعاقد الآخر سيء النية بحيث أنه كان على علم بالغلط أو كان من السهل عليه أن يتبينه ،وترك المتعاقد الآخر فريسة للغلط دون أن ينبهه إليه كما تقتضي قواعد حسن النية .
ج_ حالة الغلط في الشخص :
تنص المادة 42 من ق ل ع على ان ” الغلط الواقع على شخصية أحد المتعاقدين أو على صفته لا يخول الإبطال إلا إذا كانت هذه الشخصية او الصفة أحد الأسباب الدافعة إلى صدور الرضاء من المتعاقد الآخر “.
ومن أمثلة الغلط الواقع على شخصية أحد المتعاقدين ان يتم التعاقد مع زيد من المهندسين أو الأطباء أو العمال المشهورين بالمهارة والدقة ثم يتبين أنه تم التعاقد مع غير من كان يرغب في التعاقد معه .
ومن أمثلة الغلط في صفة المتعاقد أن يؤجر شخص داره لامرأة يظنها شريفة ثم يتبين انها فاسدة السلوك .أو أن يعهد لشخص يظنه مهندسا بالإشراف على بناء له ثم يتبين له أنه ليس بمهندس ولا يفقه في أمور الهندسة شيئا .
والغلط سواء وقع في ذات الشخص أم في صفة من صفاته فإنه في الحالتين يعيب الرضى ويكون سببا للإبطال .
ولكن شرطا أساسيا يجب أن يتوفر في الغلط ليسوغ الإبطال وهو أن تكون ذات الشخص أو صفته أحد الأسباب الدافعة غلى التعاقد .ويعود للقاضي تقدير ما إذا كانت ذات الشخص أو صفته محل اعتبار عند التعاقد .وهذا الأخير يقوم بهذه المهمة بحسب ظروف كل قضية .
ورغم سكوت المشرع المغربي فإن الكل يجمع على مساواة الغلط الواقع في الشيء والغلط الواقع في الشخص من حيث وجوب عدم الاعتداد بالغلط إلا إذا كان مشتركا أو وقع فيه أحد الطرفين وكان المتعاقد الآخر يعلم او كان من السهل عليه أن يتبين ان المتعاقد معه لم يتعاقد إلا تحت تأثير الغلط الذي كان فريسة له .
د_ حالة الغلط في الحساب :من المجمع عليه ان الغلط في الحساب هو غلط غير مجد من حيث تقرير الإبطال .فهو غلط مادي بحت لا يعيب العقد الذي تخلله وإنما يصحح الغلط الواقع ويمضي العقد على الأساس الصحيح ،وهذا ما أوضحته المادة 43 بقولها :”مجرد غلطات الحساب لا تصلح سببا للفسخ وإنما يجب تصحيحها “.
ذ_ حالة الغلط الواقع من الوسيط : إذا تم العقد عن طريق وسيط ووقع هذا الوسيط في غلط تناول الشيء او الشخص فإن للمتعاقد الذي استخدم الوسيط أن يعتد بهذا الغلط كما لو كان قد وقع هو نفسه فيه ،وله بالتالي ان يطلب الإبطال في الحالات التي يسوغ فيها الغلط الواقع الإبطال .وقد نصت على ذلك المادة 45 فقالت :”غذا وقع الغلط من الوسيط الذي استخدمه أحد المتعاقدين ،كان لهذا المتعاقد ان يطلب الإبطال الالتزام في الاحوال المنصوص عليها في المادتين 41و 42 السابقتين ،ومن امثلة الغلط الواقع من الوسيط ما إذاك ان الشخص يمتلك أثاثا أثريا وكلف وكيلا بالعمولة ببيع هذا الأثاث ،فيبيعه الوكيل على أساس أنه مجرد اثاث عادي .
وقد وجد المشرع ان ينبه إلى ان أحكام الغلط الواقع من الوسيط لا تخل بالقواعد العامة المتعلقة بالخطأ ولا بحكم المادة 430 في الحالة الخاصة بالبرقيات وبمقتضاها “إذا وقع خطأ أو تحريف أو تأخير في نسخ البرقية ،طبقت القواعد العامة المتعلقة بالخطأ .ويفتر ض عدم وقوع الخطأ من مرسل البرقية إذا كان قد طلب مطابقتها مع الأصل أو أرسلها مضمونة وفقا للضوابط التلغرافية “.
تقدير وجود الغلط يقوم على معيار ذاتي :
إن تقدير وجود الغلط أو انتفائه لا يقوم على أساس ضوابط موضوعية بل إنما يقوم على أساس معيار ذاتي يوجب التبصر في كل حالة من حالات الغلط على حدة ومراعاة الظروف التي رافقت هذا العيب والاعتداد على وجه الخصوص بسن المتعاقدين ووضعهم وذكورتهم أو أنوثتهم .وقد وجد المشرع أن يوضح ذلك فأوجب على القضاة عند تقدير الغلط “أو الجهل سواء بالقانون أم الواقع ،أن يراعوا ظروف الحال وسن الاشخاص وحالتهم وكونهم ذكورا أو إناثا ” المادة44.
المطلب الثاني: في التدليـــــــــــــــــــــــــــــــــــس
التدليس هو استعمال خديعة توقع الشخص في غلط يدفعه إلى التعاقد ،فالمتعاقد تحت وطأة التدليس أنما يتعاقد تحت تأثير الوهم الذي اثاره في ذهنه المدلس ،فإرادته ليست حرة سليمة بل هي معيبة والعيب الذي يشوبها هو الغلط الذي ولده التدليس .أنما يختلف هذا الغلط عن الغلط المجرد في أن الأول يقع فيه العاقد نتيجة أساليب التضليل والاحتيال التي لجأ إليها المدلس ،بينما الثاني هو غلط تلقائي يقع فيه المتعاقد من نفسه .
وقد خصص المشرع للتدليس المادتين 52 و53 حيث أوضح مختلف الشروط الواجب توافرها لقيام هذا العيب .
وجوب تمييز التدليس عن الغش : يجب التمييز بين التدليس dol وبين الغشfraude :فالتدليس يصاحب تكوين العقد وهو الذي يدفع إلى التعاقد أما الغش فهو خديعة تقع خارجة نطاق التعاقد ،كان يخلط شخص الحليب بالماء ويعرضه للبيع على انه حليب خالص او تقع أثناء تنفيذ العقد كان ستعمل تاجر وسائل احتيالية يوهم فيها من اشترى بضاعة منه ،أن البضاعة التي يريد تسليمه إياها هي من حيث الصنف و الجودة مطابقة لمواصفات العقد الذي تم بينهما وإذا هي غير ذلك .
شروط قيام التدليس: بالرجوع إلى المادتين 52 و 53 اللتين خصهما المشرع للتدليس ،يمكن القول ان مفهوم التدليس يتوقف تحققه على توافر الشروط الثلاثة الآتية:
- الشرط الأول : استعمال المدلس وسائل احتيالية لتضليل المدلس عليه
- الشرط الثاني : كون هذه الوسائل الاحتيالية هي التي دفعت المدلس عليه إلى التعاقد
- الشرط الثالث : صدور الوسائل الاحتيالية من المتعاقد الآخر او كون هذا المتعاقد على علم بها.
الشرط الاول :استعمال المدلس وسائل احتيالية لتضليل المدلس عليه :يتطلب قيام التدليس استعمال المدلس وسائل احتيالية تخفي الحقيقة عن المتعاقد وتولد الغلط في ذهنه ،وهذا العمل الذي يقدم علي المدلس يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو عبارة عن الوسائل والسبل التي استعملها المدلس ،وعنصر معنوي وهو عبارة عن نية التضليل لتحقيق غرض غير مشروع .
العنصر المادي :يتمثل في ان ستخدم المدلس وسائل احتيالية لإخفاء الحقيقة عن المتعاقد وتضليله ،ومن تم دفعه إلى التعاقد تحت تأثير هذا التضليل كتقديم مالك الارض للراغب في تملكها مخططات لبناء يقام عليها في حين أنها لا تصلح لمثله .
وهنا يطرح سؤال :هل الكذب والكتمان يمكن ان يشكل كل منهما عنصرا ماديا كافيا لقيام التدليس .
الاصل ان مجرد الكذب لا يعتبر من الوسائل الاحتيالية و لا يكفي بالتالي لتحقي التدليس كما في الكذب الدارج بين الباعة من حيث المبالغة في أوصاف المبيع ومزاياه وأفضليته ونحو ذلك ،إذ المفروض بالمشتري انه يدرك مثل هذا الكذب المعروف بين الناس أنه من أساليب الترويج ويستطيع الحذر منه .
ولكن الكذب في واقعة معينة لها اعتبار في نظر المتعاقد الآخر يعتبر تدليسا .فهكذا مثلا لو جزم البائع كذبا وبهتانا ،بوجود صفة معينة في المبيع كان يصر عليها المشتري ،اعتبر كذبه تدليسا وساغ للمشتري الطعن في البيع وإبطاله ،وكذلك يرقى الكذب إلى درجة التدليس عندما يترتب على أحد المتعاقدين تقديم بيانات إلزامية لها تأثير كلي واهمية خاصة في عملية التعاقد ،ويدلي ببيانات غير صحيحة .
وكذلك الاصل في الكتمان réticence أنه لا يعتبر عنصرا ماديا كافيا لقيام التدليس ،إذ ليس على المتعاقد بيان كل ما يتعلق بعملية التعاقد وبالمعقود عليه لما في ذلك من حرج .ولكن هناك حالات يكفي فيها الكتمان لقيام التدليس وذلك عندما يتعلق الكتمان في ناحية يوجب القانون او طبيعة العقد بيانها ،كما لو كتم بائع عقار على المشتري ان العقار المبيع قد شرع في نزع ملكيته للمنفعة العامة .
العنصر المعنوي :يجب لقيام التدليس ان يتوافر العنصر المعنوي إلى جانب العنصر المادي .ونعني بالعنصر المعنوي ان تكون الحيل التي لجأ إليها المدلس تهدف التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع، أما إذا كان غرض من قام بالوسائل الاحتيالية مشروعا فلا يقوم التدليس ،وذلك كما لو لجأ الدائن أو المودع إلى خديعة حتى أخد الاول من مدين ظهرت بوادر إعساره رهنا يضمن به استيفاء دينه ليس إلا ،وحصل الثاني من وديع تبين عدم أمانته إقرار بالوديعة لا لشيء إلا ليمنع على الوديع إنكار الوديعة .فهذه الخديعة لا تشكل تدليسا لان الدائن أو الوديع كان يهدف من وراءها ضمان حقه وهو غرض مشروع ،وأن التدليس يتطلب لقيامه أن تكون الوسائل الاحتيالية المستعملة ترمي إلى تحقيق غرض غير مشروع .
كون الوسائل الاحتيالية هي التي دفعت إلى التعاقد :لا تسوغ المطالبة بإبطال العقد للتدليس إلا إذا تبث أن الوسائل الاحتيالية التي لجا إليها المدلس هي التي دفعت بالمتعاقد إلى التعاقد وهذا ما أشارت إليه المادة 52 بقولها :”التدليس يخول الابطال إذا كانت الحيل أو الكتمان …قد بلغت في طبيعتها حدا بحيث لولاها لما تعاقد الطرف الآخر “.
ومعرفة ما إذا كانت الوسائل الاحتيالية التي استعملها المدلس للتضليل هي التي حملت على التعاقد من الأمور الواقعية التي يعود تقديرها لقاضي الموضوع .
التدليس الدافع والتدليس غير الدافع :يفرق الفقه عادة بين التدليس الدافع dol principal الذي يعيب الإرادة ويخول الحق في إبطال العقد وفي المطالبة بالتعويض عند الاقتضاء وبين التدليس غير الدافع dol incident أو التدليس الطارئ الذي لا يدفع إلى التعاقد وإنما يحمل المتعاقد الذي هو مصمم على التعاقد على القبول بشروط أبهظ ما كان ليرتضيها أو على القبول بمنح ميزات ما كان ليمنحها لولا وقوعه تحت وطأة التدليس .
و المشرع المغربي تبنى هذا التمييز بدوره فهو في معرض بيان شروط التدليس نص صراحة في المادة 52 على ان الحيل التي تخول الإبطال هي التي “لولاها لما تعاقد الطرف الآخر ” دالا بذلك على ان التدليس الذي يعتد به كسبب للإبطال هو التدليس الدافع إلى التعاقد .أما التدليس غير الدافع أو العارض فالا يمنح إلا حق المطالبة بالتعويض عملا بنص المادة 53 التي قررت صراحة أن” التدليس الذي يقع على توابع الالتزام من غير ان يدفع إلى التحمل به لا يمنح إلا الحق في التعويض”.
وتجدر الاشارة إلى أنه استثناء يعتد بالتدليس العارض كسبب للإبطال وذلك إذا وصل ضرر المدلس عليه حد الغبن .ذلك أن العقد يعتبر في هذه الحالة معيبا ويجوز إبطاله عملا بالمادة 55 من ق ل ع التي تخول إبطال العقد للغبن المسبب عن التدليس .
الشرط الثالث :صدور الوسائل الاحتيالية عن المتعاقد الآخر او كون هذا الاخير على علم بها
نصت المادة 52 على ان التدليس يخول إبطال العقد إذا ما صدر عن ” أحد المتعاقدين أو نائبه أو شخص آخر يعمل بالتواطؤ معه ” ثم أضافت ” ويكون للتدليس الذي يباشره الغير نفس الحكم إذا كان الطرف الذي يستفيد منه عالما به “. أما إذا كان المتعاقد مع المدلس عليه غير عالم بالتدليس الذي باشره الغير فإن المدلس عليه لا يستطيع الطعن بالعقد للتدليس الذي كان عرضة له والمطالبة بإبطال العقد . بل يكون حقه محصورا بمداعاة المدلس بالعطل و الضرر ليس إلا .
المطلب الثالث :في الإكــــــــــــــــــــراه
عرفت المادة 46 الإكراه بأنه ” إجبار يباشر من غير أن يسمح به القانون يحمل بواسطته شخص شخصا آخر على أن يعمل عملا بدون رضاه “.فالإكراه يصيب الإرادة في اهم عنصر من عناصرها هو عنصر الحرية و الاختيار ،إذ المكره لا يرغب في التعاقد إنما الرهبة التي ولدها الاكراه دفعته إلى أن يتعاقد .
شروط الإكراه :لابد في الإكراه حتى يعيب الرضى ويكون سببا في الإبطال من توفر الشروط الأربعة التالية :
- الشرط الأول : استعمال وسيلة للضغط على شخص
- الشرط الثاني : كون هذه الوسيلة بعثت رهبة في نفسه .
- الشرط الثالث : كون هذه الرهبة هي التي دفعته إلى التعاقد .
- الشرط الرابع : كون المقصود من الرهبة المتولدة في نفس المكره تحقيق غرض غير مشروع.
وسنبحث على التعاقب في مختلف هذه الشروط
الشرط الأول :استعمال وسيلة للضغط على شخص : يجب لتحقق فكرة الإكراه قانونا ،أن تستعمل وسيلة ما للضغط على المكره بحيث تحدث لمن كان عرضة لها حسب نص المادة 47 “ألما جسميا أو اضطرابا نفسيا عميقا “.
فالإكراه قد يكون جسميا violence physique وهو الذي تقع وسيلة الضغط فيه على جسم المكره كالضرب والتعذيب ،وقد يكون نفسيا violence morale وهو الذي تكون الوسيلة فيه تهديدا بأذى يلحق المكره أو غيره من ذوي قرباه في النفس أو الشرف أو الجسم أو المال .والإكراه النفسي هو الأكثر شيوعا .ومثله تهديد الشخص بالضرب او القتل أو تهديده بإثارة فضيحة أو تهديده بحرق داره ،أو تهديده بخطف ابنه أو التشهير بزوجه .
والإكراه بنوعيه الجسمي والنفسي يستوي في تعييب الإرادة وجعل العقد قابلا للإبطال .
النفوذ الأدبي لا يشكل بحد ذاته إكراه : إن النفوذ الأدبي crainte révérencielle كنفوذ الأب على إبنه أو الزوج على زوجته أو الرئيس على مرؤوسيه لا يشكل بحد ذاته إكراها نفسيا ولا يبرر بالتالي إبطال العقد ممن يدعي أنه كان واقعا تحت تأثير مثل هذا النفوذ ،وهذا ما أوضحه المشرع المغربي في المادة 51 من ق ل ع التي ورد فيها أن ” الخوف الناشئ عن الاحترام لا يخول الإبطال إلا إذا انضمت إليه تهديدات جسمية أو أفعال مادية”
يعتد بالإكراه سواء صدر عن أحد المتعاقدين أو صدر من الغير: لا فرق بين صدور الإكراه من أحد الطرفين المتعاقدين أم من أحد من الغير ففي الحالتين تتعيب إرادة المتعاقد المكره ،وفي الحالتين يجب منحه الحق في إبطال العقد الذي أبرم تحت وطأة الإكراه ،وهذا ما أوضحته المادة 49 من ق ل ع م بقولها “الإكراه يخول إبطال الالتزام وإن لم يباشره المتعاقد الذي وقع الاتفاق لمنفعته”.
كم يعتد بالإكراه حتى ولو تهيأت ظروفه مصادفة واستغل شخص هذه الظروف كوسيلة للضغط .
الشرط الثاني: كون الوسيلة المتبعة بعثت رهبة في نفس المكره
ليست العبرة في الإكراه للوسيلة التي اتبعت للضغط على المكره و إنما العبرة لما تبعثه هذه الوسيلة من الرهبة في النفس تجعل المكره يتصور أن خطرا جسيما يهدده وضررا عظيما ينتظره .
وتقدير جسامة الخطر وعظم الضرر ،وبالتالي ما بعث ذلك من رهبة في النفس ،هو من المسائل الواقعية التي يعود تقديرها لقاضي الموضوع ومعيار التقدير هنا كما هو الحال في عيبي الغلط والتدليس معيار ذاتي يتبع حالة الشخص و الظروف التي تحيط به ،وعلى هذا أوضح المشرع في المادة 47 أنه يجب عند التقدير “مراعاة السن والذكورة و الأنوثة وحالة الأشخاص ودرجة تأثرهم .فما يرهب الحدث قد لا يرهب الكهل وما يخيف المرأة ربما لا يخيف الرجل .
يعتد بالإكراه سواء وقع على المتعاقد بالذات أو وقع على الغير :لا يشترط في الخطر الذي يولد الرهبة في النفس أن يكون واقعا على المتعاقد نفسه بل يمكن أن يكون الخطر محدقا بشخص آخر يحرص هذا المتعاقد على إنقاذه .وقد ورد بهذا المعنى في المادة 50 من ق ل ع أن الإكراه يخول الإبطال ولو وقع على شخص يرتبط عن قرب مع المتعاقد بعلاقة الدم .
الشرط الثالث: كون الرهبة المتولدة في نفس المكره هي التي دفعته إلى التعاقد
لا يعتد بالإكراه ولا يجوز بالتالي للمتعاقد المكره الطعن بالعقد الذي أبرمه إلا إذا كان قد تعاقد تحت تأثير الرهبة التي تولدت في نفسه ،فوسيلة الضغط التي كان عرضة لها سواء كانت وسيلة حسية أو وسيلة نفسية لا يعتد بها لذاتها وإنما الذي يعتد به هو الأثر الذي تخلفه هذه الوسيلة لدى المتعاقد والرهبة التي تولدها في نفسه فيضطر إلى التعاقد اضطرارا ،وقد أبرزت المادة 47 هذا الشرط وقدمته في الترتيب على غيره عندما قالت “إن الإكراه لا يخول إبطال الالتزام إلا :
-إذا كان هو الدافع إليه .
– إذا قام على وقائع من شأنها أن تحدث لمن وقعت عليه ألما جسميا أو اضطرابا نفسيا أو الخوف من تعريض نفسه أو شرفه أو أمواله لضرر كبير …”
ويعود طبعا لقاضي الموضوع تقدير ما إذا كانت الرهبة هي التي حملت المكره على التعاقد فيقضي عندها بإبطال العقد .
أما إذا لم يكن الإكراه هو الدافع إلى التعاقد ،بل اقتصر أثره على التعجيل مثلا في إبرام العقد الذي كان المتعاقد مصمم على إبرامه ،فإنه لا يشكل عيبا للإرادة يجيز إبطال العقد ،وإنما يقف عند حد اعتباره عملا غير مشروع يترتب عليه ،شأنه شأن التدليس غير الدافع ،إعطاء المكره المتضرر الحق في المطالبة بالتعويض عملا بأحكام المسؤولية التقصيرية .
الشرط الرابع :كون المقصود من الرهبة المتولدة في نفس المكره تحقيق غرض غير مشروع
لا بد كي يتحقق الإكراه ،أن يكون المقصود من الرهبة المتولدة في نفس المتعاقد المكره الوصول إلى غرض غير مشروع ،لا فرق بين أن تكون وسيلة الإكراه التي اتبعت مشروعة أو غير مشروعة .أما إذا الضغط يهدف تحقيق غرض مشروع فلا تتحقق فكرة الإكراه حتى ولو كانت وسيلة الضغط غير مشروعة .وقد أشار المشرع المغربي إلى هذا الشرط في معرض تعريفه الإكراه في المادة 46 حيث تحدث عن “ضغط يباشر من غير أن يسمح به القانون .
المطلب الرابع :في الغبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن
الغبن هو التفاوت وانتفاء التوازن بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه مقابل ما يعطيه في عقود المعاوضة .مثال ذلك البيع بثمن بخس حيث يلحق الغبن البائع أو بثمن باهظ حيث يلحق الغبن المشتري ،والمتعاقد المغبون الذي يعطي أكثر ما يأخذ ،غالبا ما يفعل ذلك لأنه واهم أو مخدوع في قيمة ما يأخذ بحيث تكون أرادته معيبة بما يقرب من الغلط أو التدليس .
بالرجوع إلى المادتين 55 و 56 من ق ل ع اللتين خصهما المشرع للغبن يتبين أن القاعدة في التقنين المغربي أن الغبن المجرد عن التدليس لا يكفي لإبطال العقد .وليس لهذه القاعدة سوى استثناء واحد هو الحالة التي يلحق فيها الغبن بالقاصر أو بناقص الاهلية حيث يكون الغبن وحده سببا للإبطال .
ويقتضي بحث الغبن ان نعرض للقاعدة العامة التي تقول بعدم الاعتداد بالغبن الجرد كسبب للإبطال ،ثم نبحث في حالة الغبن الذي يرافقه التدليس حيث يجوز الإبطال ،ثم نختم بالتطرق للحالة الاستثنائية التي يكون فيها الغبن المجرد كافيا للإبطال .
القاعدة العامة أن الغبن المجرد لا يخول الإبطال :الأصل في التشريع المغربي أن الغبن المجرد لا يعيب العقد ولا يخول الإبطال ،فالقانون ليس من شانه أن يحرس على إقامة توازن اقتصادي بين المتعاقدين .
الغبن المقرون بالتدليس يخول الإبطال : إذا اقترن الغبن بالتدليس فإنه يعتد به ويصلح أساسا للطعن بالعقد وإبطاله ،فإذا ما اشترى مثلا شخص أرضا معدة للبناء بثمن باهظ نتيجة وسائل احتيالية استعملها البائع كان يكون أطلع المشتري على كتب مزورة يعرض فيها أصحابها شراء الارض بأكثر من الثمن الذي يطلبه البائع من المشتري الحالي ،جاز لهذا المشتري الطعن بعقد البيع والمطالبة بإبطاله للغبن الذي لحق به نتيجة تدليس البائع .وهذا ما قررته المادة 55 بقولها :”الغبن لا يخول الإبطال إلا إذا نتج عن تدليس الطرف الآخر أو نائبه أو الشخص الذي تعامل من اجله …”
وتتجلى فائدة إقرار المشرع جواز إبطال العقد للغبن المقرون بالتدليس في حالات التدليس غير الدافع الذي يقف عند حد كونه عملا غير مشروع ،لا يخول وحده الإبطال ،ولا يمنح إلا الحق في التعويض على ما هو مقرر في المادة53 .
استثناء الغبن المجرد يعيب العقد ويخول الإبطال : لقد نص المشرع على هذا الاستثناء في المادة 56 حيث قرر ان الغبن المجرد يكفي وحده لإبطال العقد إذا لحق بقاصر او ناقص أهلية حتى لو تعاقد بمعية وصيه او مساعده القضائي وفقا للأوضاع التي يحددها القانون ،فلو عقد القاصر شراء بإذن من نائبه الشرعي ،وكان الثمن الذي أداه القاصر باهظا وبلغ التفاوت وبين قيمة هذا الشيء الحقيقية حد الغبن ،وقع عقد الشراء متعيبا ،وجاز إبطاله للغبن . وقد حدد المشرع الغبن بما يزيد على الثلث بين الثمن المذكور في العقد والقيمة الحقيقية للشيء .اما فيما عاد هذا الاستثناء المقرر لفائدة القاصر وناقص الأهلية ،فإنه يجب الرجوع إلى القاعدة العامة المقررة في المادة 55 وهي ان الغبن لا يعتد به كسبب للإبطال إلا إذا رافقه التدليس.
النظرية الحديثة للغبن :الغبن الإستغلالي
هذه النظرية تعتد بالغبن في سائر التصرفات شان الغبن في ذلك شان جميع عيوب الرضى ،ثم هي غلى جانب ذلك نظرية ذاتية تقوم على فكرة الغبن الاستغلالي :والغبن الاستغلالي هو ان يستغل أحد المتعاقدين ضعف أو حاجة أو طيش المتعاقد الآخر ويستجره إلى عقد يغبنه فيه بحيث لا تتوازن في هذا العقد التزامات المغبون وحقوقه .ومن الملاحظ ان نظرية الغبن الاستغلالي آخذة في الانتشار لأنها كفيلة بمواجهة حالات من الاستغلال لا تتسع نظرية الغبن التقليدية لمعالجتها وحماية المتعاقد منها .
المطلب الخامس :في حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة (الغبن الاستغلالي)
إن المشرع المغربي لم يكتف بإقرار عيوب الرضى التقليدية وهي الغلط والتدليس والإكراه والغبن ،بل هو منح القاضي في المادة 54 حق إبطال العقود المعقودة في حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة .وهو إذ منحه هذا الحق لم يقيده بقيد بل ترك الامر لسلطته وتقديره .
الإبطال بسبب حالة المرض :قد يبرم شخصا عقدا وهو في حالة المرض ويستطيع القاضي إبطال هذا العقد للإكراه لأن المريض قد عقده وهو تحت وطأة الإكراه .فهكذا لو عمدت خادمة إلى منع الإسعافات الضرورية عن مخدومها العاجز المريض لتحمله على أن يهبها مبلغا من المال مقابل تقديم هذه الإسعافات إليه ،أمكنه الطعن بهذه الهبة للإكراه .
وقد يبرم شخص عقدا في حالة مرض ويغبن فيه عينا فاحشا ولا يستطيع القاضي إبطال هذا العقد للإكراه أو الغبن لعدم توافر شروطهما .ومع ذلك فالعقد جائر لأن التزامات المريض أو الفائدة التي حصل عليها نتيجة العقد ،لا تتكافأ والتزامات الطرف الآخر ففي مثل هذا الوضع يستطيع القاضي بالاستناد إلى السلطة التقديرية التي منحه إياها المشرع في المادة 54 أن يقرر إبطال العقد إذا ما طلب منه ذلك .
الابطال بسبب حالات أخرى مشابهة لحالة المرض :
يقصد بالحالات المشابهة لحالة المرض حالات يوجد فيها الشخص تجعله أقرب للمريض ضعيف التفكير منه لسليم الجسم صحيح العقل والإدراك كما في الطيش الجارف أو الهوى الجامح أو الحاجة الماسة او عدم الخبرة .فإذا تعاقد شخص وهو في حالة من هذه الحالات ،وتبين أن الالتزامات المترتبة عليه بموجب العقد لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه من فائدة أو مع التزامات المتعاقد الآخر الذي استغل الوضع ،واستحال ابطال العقد للتدليس أو الغبن أو الإكراه لعدم توافر شروط عيب من هذه العيوب جاز للقاضي بما أولاه المشرع من سلطة تقديرية في المادة 54 ،ان يعمد إلى إبطال العقد بطلب من المغبون .
الفرع الثاني : الأهليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
الأهلية نوعان :أهلية وجوب وأهلية أداء (المادة 206 من مدونة الأسرة ) . فأهلية الوجوب capacité de jouissance هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق والالتزامات له وعليه ،وهي ملازمة للشخصية تثبت للإنسان من وقت ولادته حيا إلى حين وفاته .بل وتبدأ قبل ذلك للجنين في حدود معينة . وأما أهلية الأداء capacité d’exercice فهي صلاحية الشخص لممارسة التصرفات والحقوق والتحمل بالالتزامات على وجه يعتد به قانونا وأهلية الأداء هي التي تعنينا لأن بحتنا إنما يتعلق بأهلية التعاقد ،أو بصورة أعم بأهلية الالتزام .
وقد خص المشرع المغربي لأهلية الالتزام المواد 3 إلى 13 من ق ل ع مشيرا في مطلع المادة الثالثة إلى أن “الأهلية المدنية للفرد تخضع لقانون أحواله الشخصية ” وموضحا مباشرة بعد ذلك أن ” أن كل شخص أهل للإلزام والالتزام ما لم يصرح قانون أحواله الشخصية بغير ذلك “.
مخطط البحث :الأصل في الشخص أنه كامل الأهلية ما لم يصرح القانون بعكس ذلك ،إلا أن هناك حالات نص عليها القانون و التي تسلب أو تنقص فيها الأهلية مم يؤثر على التصرفات .وقد أجاز القانون للقاصر الذي أتم الخامسة عشرة من عمره أن يؤذن له بتسلم أمواله لإدارتها .
المبحث الاول :الأصل في الشخص كمال الاهلية
المبحث الثاني :فقدان الأهلية وأثره في التصرفات .
المبحث الثالث :نقصان الأهلية أثره في التصرفات
المبحث الرابع :حكم المميز المؤذون
المبحث الأول : الأصل في الشخص كمال الأهلية
نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة من ق ل ع على أن “كل شخص أهل للإلزام والالتزام ما لم يصرح قانون احواله الشخصية بغير ذلك “. فالأصل إذن كمال الأهلية في الإنسان بحيث يعتبر لا أحد فاقد الأهلية أو ناقصها إلا بمقتضى نص في القانون .
ولما كان كمال الأهلية لدى المتعاقد هو الوضع الثابت أصلا ،فإن على من يدعي عدم الأهلية أن يثبت ما يدعيه .فإذا قامت البينة على فقان الأهلية أو نقصها كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال ،ولا يسمع من الطرف الآخر احتجاجه بأنه كان يعتقد أن من يتعاقد معه كامل الاهلية .
أحكام الأهلية لها مساس بالنظام العام :إن أحكام الأهلية تتعلق بالنظام العام وتجب مراعاتها وفق ما قرره المشرع .وعليه لا يجوز عن طريق الاتفاق منح شخص أهلية لا يتمتع بها بحكم القانون أو حرمانه من أهلية يخولها له القانون .
المبحث الثاني :فقدان الاهلية و أثره في التصرفات
حالات فقدان الأهلية :ورد النص على حالات فقدان الأهلية في المادة 217 من مدونة الاسرة فقد جاء في المادة المذكورة ” يعتبر عديم أهلية الأداء : أولا :الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز ؛
المجنون وفاقد العقل… “.
فهناك إذن حالتين يعتبر فيهم الشخص فاقد الأهلية :حالة الصغير غير المميز ،وحالة المجنون .
حالة الصغير غير المميز : الصغير غير المميز هو الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من عمره ،وقد اعتبره المشرع عديم أهلية الأداء مطلقا ،فهو ممتنع علية مباشرة حقوقه المدنية والتصرف في امواله ،وكل تصرف يقدم عليه لا يعتد به مطلقا ويكون باطلا .
وتجدر الإشارة إلى أن سلب أهلية الصغير غير المميز لا يحتاج إلى حجر قضائي ،فهو يعتبر محجور بطبيعته لأن صغره هو لآية كافية في التنبيه إلى فقدان أهليته كي يتجنب الناس التعاقد معه .فهو يعتبر فاقد التمييز حكما .
حالة المجنون: المجنون هو فاقد العقل سواء كان جنونه مطبقا يستغرق جميع أوقاته أو متقطعا بحيث يعتريه فترات يتوب إليه عقله فيها .
وقد سوى المشرع بين الصغير غير المميز والمجنون في الحكم من حيث فقدا ن الاهلية فنص في المادة 217 من مدونة الاسرة على انه “يعتبر عديم أهلية الأداء :أولا الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز ؛
ثانيا :المجنون وفاقد العقل …”
ولكن بينما يكون الصغير محجورا عليه حكما ،فإن المجنون لا بد من حجره قضائيا بعد التثبت من حالته أصولا ،وذلك ليشهر الجنون ويعلم به الناس وعلى هذا نصت المادة 220 من مدونة الأسرة على أن” فاقد العقل والسفيه والمعتوه تحجر عليهم المحكمة بحكم من وقت تبوث حالتهم بذلك ،ويرفع عنهم الحجر ابتداء من تاريخ زوال هذه الأسباب حسب القواعد الواردة في هذه المدونة “.
فإذا ما تقرر الحجر على المجنون فكل تصرف يجريه بعد ذلك يكون باطلا وعديم الآثار .وهذا ما نصت عليه المادة 224 التي ورد فيها على أن “تصرفات عديم الأهلية باطلة ولا تنتج أي آثار “.
المبحث الثالث :نقصان الأهلية أثره في التصرفات
حالات نقصان الأهلية :عرضت المادة 213 من مدونة الأسرة لحالات نقصان الأهلية فقالت :” يعتبر ناقص أهلية الأداء : 1 الصغير الذي بلغ سن التمييز ولم يبلغ سن الرشد 2 السفيه 3 المعتوه “.
فهناك ثلاث حالات يعتبر فيها الشخص ناقص أهلية الاداء :حالة الصغير المميز وحال السفيه وحالة المعتوه .
الصغير المميز : هو الذي أتم اثنتي عشرة سنة شمسية كاملة ولم يبلغ سن الرشد الذي حددته المادة 209 من مدونة الأسرة في 18 سنة شمسية كاملة .
والصغير المميز كالصغير غير المميز يعتبر محجورا للصغر .وهو يخضع مثله وبحسب الأحوال لأحكام الولاية أو الوصاية أو التقديم بالشروط ووفقا للقواعد العامة (المادة 229 ) فينوب عنه إذن ولي أو وصي أو مقدم .
الســـفيه :هو المبذر الذي يسرف أمواله في ما لا فائدة فيه ،وفيما يعده العقلاء عبثا ،بشكل يضر به أو بأسرته .(المادة 215).
وخلا فللصغير المميز الذي يعتبر محجورا بطبيعته كالصغير غير المميز فإن السفيه يحجر عليه قضائيا كفاقد العقل من وقت تبوث سفهه ويرفع عنه القاضي الحجر اعتبار من وقت زوال السفه .(المادة 220) .
ويخضع السفيه كالصغير المميز وكفاقدي الاهلية لأحكام النيابة الشرعية بالشروط ووفقا للقواعد المقررة في مدونة الاسرة فينوب عنه إذن مقدم .
المعــــتوه :هو الشخص المصاب بإعاقة ذهنية لا يستطيع معها التحكم في تفكيره و تصرفاته .(المادة 216 من مدونة الأسرة ).
والمعتوه تحجر عليه المحكمة بحكم ابتداء من تاريخ ثبوت حالته بذلك ،شأنه في ذلك شأن السفيه وفاقد العقل .ويحق له أن يطلب من المحكمة رفع الحجر عنه إذا أنس من نفسه رشدا كما يخول ذلك لنائبه الشرعي .(المادة 218 من مدونة الأسرة ).
أثر نقصان الأهلية على التصرفات :يختلف أثر نقصان الأهلية على التصرفات باختلاف نوع التصرف، تقسم التصرفات بهذا الشأن تقليديا إلى ثلاث زمر :تصرفات نافعة نفعا محضا وتصرفات ضارة ضررا محضا ،وتصرفات تدور بين النفع والضرر .
حكم التصرفات النافعة نفعا محضا :يقصد بالتصرفات النافعة نفعا محضا التصرفات التي تثري المتصرف أو تبرئ ذمته من التزام دون تحمله مقابل ذلك بأي تكليف ،كقبول هبة بلا عوض أو قبول براءة من دين عالق بالذمة .فمثل هذه التصرفات يجوز لناقص الأهلية مباشرتها بنفسه .وتعتبر إذا وقعت تصرفات صحيحة ولو جرت بمعزل عن الولي أو الوصي أو المقدم وهذا ما أوضحته المادة الخامسة من ق ل ع بقولها :”يجوز للقاصر أو ناقص الأهلية أن يجلبا لنفسهما نفعا ،ولو بغير مساعدة الأب أو الوصي أو المقدم ،بمعنى أنه يجوز لهما أن يقبلا الهبة أو أي تبرع آخر من شأنه أن يثريهما أو يبرئهما من التزام دون أن يحملهما أي تكليف “.
حكم التصرفات الضارة ضررا محضا :التصرفات الضارة ضررا محضا هي التي تحمل المتصرف تكليفا دون أي كسب أو نفع يجنيه بالمقابل ،وذلك كالهبة بلا عوض بالنسبة إلى الواهب أو كالإبراء من الدين بالنسبة إلى الدائن ،فمثل هذه التصرفات يمتنع عل القاصر أو ناقص الاهلية مباشرتها بنفسه ول بإذن من نائبه الشرعي (الولي أو الوصي أو المقدم ) كما يمتنع على النائب الشرعي مباشرتها عنه وذلك تحت طائلة الإبطال .لذا بعد أن نص المشرع في مطلع المادة 12 من ق ل ع على ان التصرفات التي يجريها في مصلحة القاصر أو المحجور عليه أو الشخص المعنوي من ينوب عنهم وفي الشكل المقرر في القانون تكون لها نفس قيمة التصرفات التي يجريها الراشدون المتمتعون بأهلية مباشرة حقوقهم ” حرص على استثناء التصرفات الضارة ضررا محضا من هذه القاعدة فقال :”ولا تسري هذه القاعدة على التبرعات المحضة حيث لا يكون لها أدنى أثر ولو أجريت مع الإذن الذي يتطلبه القانون “.
حكم التصرفات الدائرة بين النفع والضرر: يقصد بالتصرفات التي تدور بين النفع والضرر التصرفات التي يحتمل أن يكون منها للمتصرف ربح أو خسارة كالبيع والشركة والإيجار فأهلية القاصر أو المحجور عليه بالنسبة لمثل هذه التصرفات تحدد على أساس التفريق بين أن تكون التصرفات المذكورة جرت بإذن من النائب الشرعي أو من القاضي عند الاقتضاء وبين أن تكون حصلت بدون إذن.
أولا :فإذا أجرى القاصر أو ناقص الأهلية تصرفا ما بإذن من نائبه الشرعي أو قام نائبه الشرعي بتصرف ما باسم من ينوب عنه مباشرة أو بعد حصوله على إذن من القاضي في الحالات التي يشترط القانون فيها إذن القاضي ،فإن مثل هذا التصرف يعتبر صحيحا وينتج آثاره القانونية كما لو قام به شخص متمتع بكامل أهليته .
وهذا ما يستنتج من المفهوم المخالف للمادة 4 من ق ل ع وما تنص عليه صراحة المادة12 من القانون المذكور :فالمادة 4 إذ صرحت أن القاصر او ناقص الأهلية “إذا تعاقد بغير إذن الأب أو الوصي او المقدم فإنهما لا يلزمان بالتعهدات التي يبرمانها ولهما أن يطلبا إبطالها …”تكون قد أخذت بصحة التصرفات التي يبرمها القاصر وناقص الأهلية بإذن من النائب الشرعي واعتبرت مثل هذه التصرفات ملزمة لهما .والمادة 12 أوضحت من جهتها أن “التصرفات التي يجريها في مصلحة القاصر أو المحجور عليه …من ينوب عنهم في الشكل المقرر في القانون تكون لها نفس قيمة التصرفات التي يجريها الراشدون المتمتعون بأهلية مباشرة حقوقهم “.
ثانيا: أما إذا أقدم القاصر أو ناقص الأهلية على إجراء تصرف دون الحصول على إذن من نائبه الشرعي ،فإن تصرفه لا يكون ملزما له وقع قابلا للإبطال .وعلى هذا ورد في المادة 4 من ق ل ع أنه “إذا تعاقد القاصر أو ناقص الأهلية بغير إذن الأب أو الوصي أو المقدم ،فإنهما لا يلزمان بالتعهدات التي يبرمانها ولهما أن يطلبا إبطالها …”.
ويستدعي إبطال تصرفات القاصر او ناقص الأهلية لعدم حصوله على إذن من نائبه الشرعي الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: إن الإبطال يقرر إما من النائب الشرعي (الولي أو الوصي أو المقدم ) وإما بطلب من القاصر بعد بلوغه سن الرشد أو من المحجور عليه بعد رفع الحجر عنه .
وللقاصر حق المطالبة بالإبطال حتى ولو كان استعمل طرقا احتيالية من شأنها أن تحمل المتعاقد الآخر على الاعتقاد برشده ،او بموافقة نائبه الشرعي أو بكونه تاجرا المادة 6 من ق ل ع )
الملاحظة الثانية: إن حق الإبطال محصور بمن تقرر الإبطال لمصلحته أي بالقاصر او ناقص الأهلية .أما من تعاقد معهما فلا يجوز له الاحتجاج بنقص اهليتهما للمطالبة بإبطال العقد ،على ما أكدته المادة 10 من ق ل ع إذ قالت :لا يجوز للمتعاقد الذي كان أهلا للالتزام أن يحتج بنقص أهلية الطرف الذي تعاقد معه “. إنما يكون لمن تعاقد مع القاصر او ناقص الاهلية الحق في الحالة التي يكون قد نفذ فيها هو وحده التزامه ،أن يلزم القاصر وناقص الاهلية على رد ما عاد عليهما من نفع بسبب تنفيذ هذا الالتزام .ويكون هناك نفع حسب ما أوضحه المشرع في المادة 9 إذا استعمل القاصر أو ناقص الأهلية الشيء الذي تسلمه في المصروفات الضرورية ،أو النافعة ،أو إذا كان هذا الشيء لا زال موجودا في ذمته المالية (كأن يكون أودع المال الذي قبضه في مصرف ).
الملاحظة الثالثة: إذا ما تقرر الإبطال فلا تطبق القاعدة العامة التي تقضي في حالة إبطال العقد ،بإعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد (المادة 316) بل إن القاصر أو ناقص الأهلية لا يكونا ملتزمين إلا في حدود النفع الذي استخلصاه من العقد (الفقرة الأخيرة من المادة 6) .
الملاحظة الرابعة : إن التصرفات التي يبرمها القاصر او ناقص الاهلية بدون إذن يمكن تصحيحها إذا وافق عليها الولي أو الوصي أو المقدم شرط أن تصدر الموافقة على الشكل الذي يقتضيه القانون (الفقرة الثانية من المادة 4 ) كما يمكن إجازتها من الصغير بعد بلوغه سن الرشد أو من ناقص الأهلية بعد رفع الحجر عنه (المادة 317) وعندها تصبح هذه التصرفات صحيحة بصورة نهائية بحيث لا يسوغ طلب إبطالها .
ثالثا: إن ما قلناه عن ابطال التصرفات التي يجريها القاصر او ناقص الاهلية دون الحصول على غذن من نائبه الشرعي ،يطبق على أعمال التصرف actes de disposition التي يبرمها النائب الشرعي دون الحصول على إذن خاص بإجرائها من القاضي المختص ،وعليه فكل عمل من الأعمال التي يعتبرها القانون من قبيل أعمال التصرف لا يجوز للنائب الشرعي ممارسته إلا بإذن من القاضي وإلا كان عملا غير صحيح وبالتالي عرضة للإبطال (المادة 11) .
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع اوجب على القاضي أن لا يمنح الترخيص بالقيام بعمل من أعمال التصرف إلا في حالة الضرورة أو في حالة النفع البين للقاصر ناقص الأهلية (الماة11) ،كم اوجب عليه أن لا يأذن بالاستمرار في تعاطي التجارة لحساب القاصر أو المحجور عليه إلا في حالة النفع الظاهر لهما .المادة 13.
المبحث الرابع: حكم المميز المأذون
رغبة من المشرع في فسح المجال لتمرين المميزين وتنمية بصيرتهم المالية في التصرفات تهيئة لترشيدهم أو رشدهم ،فقد سوغ المشرع للولي تلقائيا ،كما سوغ لمن يقوم مقام الولي بإذن القاضي ،أن يأذن للصغير المميز الذي اتم الخامسة عشرة من العمر وظهرت عليه مخايل الرشد ،في تعاطي الصناعة أو التجارة أو في تسلم قدر من أمواله لإدارتها وذلك بقصد التجربة .بل إن للقاضي عند امتناع الولي عن منح الإذن للصغير المميز ،أن يأذن هو له إذا رأى في ذلك نفعا .
أهلية المميز المأذون: يتمتع المميز المأذون بكامل الأهلية فيما اذن له به وفي التقاضي فيه .
جواز إلغاء الإذن الممنوح للقاصر :إن الإذن الممنوح للقاصر المميز يجوز في كل وقت ،بإذن المحكمة وبعد سماع أقوال القاصر ،إلغاؤه إذا توافرت هناك أسباب خطيرة تبرر هذا الإلغاء ،كأن يكون القاصر أساء إدارة أمواله أو كأن تكون التجارة التي اذن له بتعاطيها ألحقت به خسائر فادحة بسبب سوء تصرفه .ففي هذه الحالة لا يكون للإلغاء أثر بالنسبة للأعمال أو الصفقات التي شرع فيها القاصر قبل حصول الإلغاء (المادة8 من ق ل ع).
الفرع الثالث :المحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
وجوب التمييز بين محل العقد ومحل الالتزام :فمحل العقد objet de contra هو دوما وأبدا إنشاء التزام أو اكثر يقع على أحد المتعاقدين دون الآخر في العقود غير التبادلية كما في الوديعة ،أو يقع على كل من المتعاقدين في العقود التبادلية كما في البيع .أما محل الالتزام :objet de l’obligation فهو الأداء الذي يجب على المدين أن يقوم به لفائدة الدائن .وهذا الاداء يكون إما من قبيل إعطاء شيء أي نقل الملكية أو أي حق عيني آخر obligation de donner وإما من قبيل القيام بعمل بما فيه تسليم الشيء دون نقل ملكيته obligation de faire وإما من قبيل الامتناع عن القيام بعمل obligation de ne pas faire .ونحن الذي يهمنا هو محل الالتزام لا محل العقد .
إن محل الالتزام يؤثر بالغ التأثير على قيام العملية التعاقدية من حيث أن العقد لا ينعقد إلا إذا كان للالتزامات التي تنشأ عنه محل تتوافر فيه الشروط القانونية .فالقانون يتطلب وجود محل للالتزام ثم هو يشترط في هذا المحل :أ – أن يكون مشروعا ؛ ب _ ان يكون ممكنا ؛ج_ ان يكون معينا أو على الأقل قابلا للتعيين .
فعلينا إذن أن نبحث في مبدأ ضرورة وجود محل للالتزام التعاقدي ،(المبحث الاول) ؛ثم علينا أن نعرض لمختلف الشروط الواجب توافره في هذا المحل .(المبحث الثاني ).
المبحث الاول :ضرورة وجود محـــــــل للالتزام
لا بد لقيام التزام تعاقدي صحيح من وجود محل له ،وقد يبدو لأول وهلة أن فرضية انتفاء وجود محل في الالتزام التعاقدي فرضية خيالية ،ولكن الواقع خلاف ذلك إذ قد يحصل أن يتم تعاقد ينشأ عنه التزام لا محل له ،كأن يكون الشيء أو الحق المتعاقد عليه قد هلك أو انقضى قبل التعاقد ،أو كأن يعقد شخص تأمينا لضمان مسؤولية يعتقد أنها تلزمه ،في حين أن هذه المسؤولية لا تترتب عليه في الواقع .ففي مثل هذه الحالات التي ينتفي فيها وجود محل للالتزام ،يقع لالتزام التعاقدي باطلا، وبطلان الالتزام يفضي بالضرورة إلى بطلان العقد .
جواز كون محل الالتزام شيئا مستقبلا :فقد نصت المادة 61من ق ل ع على أنه :”يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا فيما عاد الاستثناءات المقرر بمقتضى القانون “.والتعامل في الأشياء المستقبلة كثير الوقوع في الحياة العملية وهو يزداد انتشارا يوما بعد يوم ،كما في التزام المزارع ببيع محصول مستقبل حتى ولو كان زرعا لم ينبت بعد أو ثمارا لم تنعقد أو في بيع منزل سيبنى حتى قبل وضع أي حجر في بنائه ،أوفي بيع بضاعة قيد الصنع بل وحتى قبل صنعها .
وعبارة “الأشياء المستقبلة ” الوارد عليه النص في المادة 61 يجب أخذها بالمعنى الواسع أي بمعنى الأموال بحيث لا يقتصر مدلولها على الاشياء المادية المستقبلة فحسب بل يشمل أيضا الحقوق المستقبلة .وعليه فالالتزام يمكن أن يكون محله حقا لم ينشأ بعد ،أو حقا معلقا على شرط أو حقا احتماليا .
استثناءات لقاعدة جواز كون محل الالتزام شيئا مستقبلا –منع التعامل في التركة المستقبلة :قد يحرم المشرع ،على وجه الاستثناء أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا .ومن أمثلة هذا التحريم ما ورد عليه النص في الفقرة الثانية من المادة 61 من ق ل ع وبمقتضاها “لا يجوز التنازل عن تركة إنسان على قيد الحياة ولا إجراء أي تعامل فيها أو في أي شيء مما تشتمل عليه ولو حصل برضاه وكل تصرف مما سبق يقع باطلا “.
وتركة الإنسان هي كل ما يكون له من أموال وعليه من التزامات وقت موته .فالتنازل عنها أو التعامل فيها والموروث على قيد الحياة ،يعتبر باطلا ،وكذل يعتبر باطلا التنازل على جزء فيها أو التعامل في عين معينة منها ،وتحريم التصرف بالتركة تحريم مطلق أنَى كان الطريق الذي ستؤول منه أموال التركة ألى المتصرف وأيا كان الشخص الذي سيصدر منه التصرف ومهما كان نوع التصرف ،فسواء كانت أموال التركة ستؤول إلى المتصرف عن طريق الإرث أو عن طريق الوصية فإن التصرف فيها أو التنازل عنها يقع باطلا .وسواء كان المتصرف هو الوارث أم كان الموصى له بكل التركة أو بجزء منها أو بعين معينة منها .وسواء كان التصرف بعوض كما في البيع ،أم كان بغير عوض كما في الهبة فهو تصرف باطل في كل حال .
المبحث الثاني :شروط المحــــــــــــــــــــل
يشترط في المحل توافر الشروط التالية :
الشرط الأول :أن يكون المحل مشروعا
الشرط الثاني :أن يكون المحل ممكنا
الشرط الثالث: أن يكون المحل معينا أو على الأقل قابلا للتعين .
وسنبحث على التعاقب في كل هذه الشروط :
الشرط الاول: وجوب كون المحل مشروعا :يجب أن يكون محل الالتزام مشروعا ،وحتى يكون كذلك يجب أن يكون مما يجوز التعامل فيه وأن لا يكون مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة .
أولا: يجب أن يكون محل الالتزام مما يجوز التعامل فيه .وقد استهل قانون ل ع البحث في المحل بالنص على هذه الناحية في المادة 57 حيث قال: “الاشياء والأفعال والحقوق الوقعة في دائرة التعامل يصح وحدها لان تكون محلا للالتزام “.فمن هذا النص يتضح أن الأشياء الخارجة عن التعامل لا يصح أن تكون محلا للالتزام ،والأشياء الخارجة عن التعامل تقسم تقليديا إلى زمرتين :اشياء خارجة عن التعامل بطبيعتها وأشياء خارجة عن التعامل بحكم القانون .فالأشياء الخارجة عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها كأشعة الشمس والهواء وماء البحر ،اما الاشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلا للحقوق المالية ،كالمواد المخدرة ،أو كالأملاك العامة ،إلا فيما يسمح به القانون استثناء .
وكذلك يتضح من النص أن الأفعال والحقوق الخارجة عن دائرة التعامل لا يصح كذلك أن تكون محلا للالتزام .
ثانيا: يجب أن لا يكون المحل مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة. وهذا مبدأ تتفق عليه الشرائع والنظريات القانونية وإن كان مفهوم النظام العام والآداب العامة الواجب صيانتهما وحمايتهما تختلف تطبيقاتهما وحدودهما زمانا ومكانا لأنهما مفهومان يتطوران باستمرار. ومن التطبيقات الهامة حاليا على بطلان الالتزامات لكون محلها مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة، الالتزامات الناشئة عن اتفاق يتعلق ببيوت الدعارة أو دور المقامرة: فبيع بيت للدعارة أو للمقامرة أو إيجاره يعتبر من قبيل التصرفات الباطلة .
الشرط الثاني: وجوب كون المحل ممكنا :نصت على هذا الشرط المادة 59 بقولها :” يبطل الالتزام الذي يكون محله شيئا أو عملا مستحيلا إما بحسب طبيعته أو بحكم القانون “.
والاستحالة المقصودة هنا هي الاستحالة المطلقة أي الاستحالة التي لا تقوم بالنسبة إلى شخص المدين فحسب بل بالنسبة إلى الكافة أو بعبارة أخرى هي الاستحالة الموضوعية التي ترجع إلى الالتزام ذاته. أما الاستحالة النسبية التي تقوم بالنسبة إلى العاقد الملتزم فقط. فهي لا تمنع نشوء الالتزام لأنها عجز شخصي لا استحالة.
والاستحالة المطلقة على ما ورد في المادة 59 تحول دون قيام الالتزام سواء كانت استحالة طبيعية أم كانت استحالة قانونية. ويقصد بالاستحالة الطبيعية الاستحالة التي ترجع إلى طبيعة المحل ،كما في التزام شخص بعدم القيام بعمل سبق ان قام به فعلا ،أو كما في التزام شخص بأن يقطع المحيط الأطلسي سباحة .اما الاستحالة القانونية فهي التي ترجع إلى حكم القانون كما في التزم محام بالحصول على قرار من محكمة الاستئناف بقبول استئناف يقدم ضد حكم غير قابل للاستئناف ،أو في التزامه باستصدار قرار من محكمة النقض بقبول الطعن بالنقض في وقت يكون فيه ميعاد الطعن قد انقضى.
ويجب التنبيه إلى ان الملتزم الذي كان يعلم أو كان ينبغي عليه أن يعلم عند إبرام العقد استحالة محل التزامه ،يكون ملزما بالتعويض اتجاه الطرف الآخر غير أنه لا يخول التعويض إذا كان هذا الطرف الآخر يعلم أو كان ينبغي عليه أن يعلم أن محل الالتزام مستحيل (المادة60 )
ويجب التنبيه كذلك إلى أن الاستحالة التي تبطل الالتزام وتمنع انعقاد العقد هي الاستحالة التي تكون موجودة وقت نشوء العقد .أما الاستحالة التي تطرأ بعد إبرا م العقد ،فلا تبطله بل تكون سببا لانحلاله مع ما يترتب على ذلك من انقضاء الالتزام المدين وبراءة ذمته إذا كانت الاستحالة لا يد له فيها ،أو إلزامه بالتعويض إذا كانت الاستحالة بسببه .
الشرط الثالث: وجوب كون المحل معينا أو على الأقل قابلا للتعيين :نصت على هذا الشرط المادة58 فقالت :”الشيء الذي هو محل الالتزام يجب أن يكون معينا على الاقل بالنسبة إلى نوعه ،وسوغ أن يكون مقدار الشيء غير محدد إذا كان قابلا للتحديد فيما بعد “.فمن هذا النص يتبين أن المشرع اشترط في محل الالتزام ان يكون معينا أو على الاقل قابلا للتعين .والتعيين بالنسبة للأشياء إما أن يكون تعينا بالذات وإما أن يكون تعيينا بالنوع .
فقد يكون تعيين الشيء تحديدا لذاته في الوجود الخارجي بحيث لا يشاركه في حدوده المعينة شيء آخر أصلا ولا ينطبق هذا التعيين على فرد سواه ،وذلك كتعيين الشيء بالإشارة إليه أو بكل وسيل أخرى تقطع المشاركة وتحصر الالتزام في عين مخصوصة ،كبيع العقار المسجل في السجل العقاري برقم 30 من منطقة النرجس في فاس . وقد يكون تعيين الشيء بالنسبة لنوعه فقط دون ذاته وعينه بحيث يميز النوع عن غيره من الانواع ،ولا يميز الفرد عن غيره من الأفراد ففي مثل هذه الحالة يكون كل فرد من أفراد النوع صالحا لأن يوفى به الالتزام وفاء موافقا للتحديد الواقع وذلك كبيع 5 أطنان من السكر الكوبي من النخب الاول .
وبديهي أنه في الحالة التي يكون فيها تعيين الشيء محل الالتزام تعيينا بالنوع فقط ،لا بد لصحة الالتزام من ان يكون المحل معين المقدار ،أو أن يتضمن العقد ما يستطاع به تعيين المقدار .
أما إذا كان محل الالتزام القيام بعمل أو الامتناع عن القيام بعمل فيجب أن يكون هذا العمل أو الامتناع معينا بدقة كما في التزام ممثل بالقيام بدور البطل في فيلم سينمائي أو على الأقل قابلا للتعين كأن تذكر ف تعهد مقول بإقامة بناء مواصفات هذا البناء بجلاء ووضوح فإذا لم تذكر المواصفات بطل لالتزام لافتقاره إلى محل معين وبالتالي امتنع انعقاد العقــــــــــــــــــــــــــــد.
الفرع الرابع :السبــــــــــــــــــــــــــــب
السبب نوعان :فهناك ما يسمى بالسبب القصدي أو الغائي cause finale أو بالغرض المباشر but direct immédiat وهو سبب التزام الملتزم كقبض الثمن بالنسبة للالتزام البائع وتسلم المبيع وتملكه بالنسبة للالتزام المشتري ففي هذا المفهوم التقليدي يتسم السبب بطابع موضوعي بحيث لا يتغير في زمرة العقود التي هي من نوع واحد ولا يختلف باختلاف العاقدين ومقاصدهم .
وهناك ما يسمى بالسبب الدافع أو السبب الباعث cause impulsive et déterminante وهو الغرض الشخصي البعيد غير المباشر الذي حمل المتعاقد على التعاقد .فقد يكون الباعث الذي دفع المتعاقد على البيع الحصول على الثمن لإنفاقه في أغراض معيشته او في اداء دين عليه .فالسبب في هذا المفهوم الجديد وهو سبب العقد ،يتسم بطابع شخصي بحيث يتغير من عقد لآخر في النوع الواحد من العقود تبعا لمقاصد المتعاقدين ونواياهم .
وقد أخذ قانون الالتزامات والعقود المغربي بالنظرية التقليدية في السبب وصاغ أحكامها في المواد من 62 إلى 65 .فالمادة 62 ورد فيها :”أن الالتزام الذي لا سبب له أو المبني على سبب غير مشروع يعد كأن لم يكن .
ويكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو النظام العام أو القانون “.
بينما نصت المادة 63 على أنه :” يفترض في كل التزام أن له سببا حقيقيا ومشروعا ولو لم يذكر “.في حين ورد في المادة 64 أن “السبب المذكور هو السبب الحقيقي إلى أن يثبت العكس “. وجاء في المادة 65 أنه ” إذا ثبت أن السبب المذكور غير حقيقي أو غير مشروع ،كان على من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا ،أن يقيم الدليل عليه “.
فالسبب :هو الغرض الغائي أو الهدف المباشر الذي يقصد الملتزم تحقيقه والذي في سبيله ومن أجله تحمل بالالتزام عن طريق التعاقد .وهو الذي يصلح أن يقع دائما جوابا على سؤالنا لماذا التزم الطرف المتعاقد في العقد الذي أبرمه ؟
والغرض المباشر الذي يهدف الملتزم إلى تحقيقه ليس واحدا في جميع العقود بل هو يختلف في بعضها عنه في البعض الآخر .ففي عقود التبرع كالهبة يكمن سبب التزام المتبرع في نية التبرع ،وفي عقود المعاوضة ،يفر قبين العقود التبادلية والعقود غير التبادلية :ففي العقود التبادلية أو الملزمة للجانبين يعتبر أن سبب التزام كل متعاقد هو الالتزام المقابل الذي التزم به المتعاقد الآخر ففي عقد البيع مثلا سبب التزام البائع بنقل الملكية هو التزام المشتري بدفع الثمن و العكس صحيح .ةفي غير التبادلية أو الملزمة لجانب واحد يحدد السبب على الوجه التالي :-إذا كان العقد عينيا كما في الإعارة أو الوديعة أو الرهن الحيازي يعتبر أن سبب الالتزام هو تسليم الشيء.
وإذا كان العقد رضائيا ففيه أيضا تفصيل :فإن كان تعهدا بوفاء دين فسبب الالتزام هو وجود دين يريد المتعهد وفاءه ،وإن كان وعدا ببيع أو نحو ذلك كان سبب التزام الواعد إنجاز العقد الموعود به فهذا الانجاز هو الغرض المباشر الذي كان يبغيه الواعد والذي في سبيله التزم بالوعد ،وهو سبب احتمالي قد يتحقق وقد لا يتحقق .خصائص السبب في المفهوم التقليدي :يتصف السبب في المفهوم التقليدي بالخصائص التالية :1 كونه سبب الالتزام لا سبب العقد 2 كونه يرتبط بالالتزام ارتباطا مباشرا ،إذ في سبيل السبب الذي هدف الملتزم الوصول إليه تحمل هذا الملتزم بالتزامه ،وهو يعتير جزءا غير منفصل من العقد وركنا من أركان انعقاده ،لأن العقد لا يقوم دون التزام تعاقدي ،والالتزام التعاقدي لا يقوم دون سبب يحمل عليه .
شروط السبب في المفهوم التقليدي :يشترط في السبب حتى يصلح أساسا للالتزام التعاقدي ،أن تتوفر فيه ثلاثة شروط : الشرط الأول :وجوب كون السبب موجودا والشرط الثاني :فهو وجو ب كون السبب مشروعا الشرط الثالث :يجب أن يكون السبب حقيقيا .
الشرط الأول :وجوب كون السبب موجودا :لا بد لقيام الالتزام من حمله على سبب وإلا كان الالتزام مجردا من كل أثر وهذا ما أشار إليه المشرع المغربي في مطلع المادة 62 التي استهل فيها بحث السبب حيث قال:” الالتزام الذي لا سبب له يعد كأن لم يكن “. وقلما تتحقق في الواقع فرضية انتفاء السبب .ومع ذلك يمكن أن تقع هذه الفرضية في بعض الحالات كما إذا تعهد وارث إزاء الموصى له بتنفيذ الوصية ثم يتبين أن الموصي قد رجع عن الوصية .أو كما لو اتفق مدين مع دائنه على تجديد دين ثم ظهر أن الدين القديم كان قد انقضى قبل التجديد .ففي مثل هذه الحالات يكون الالتزام مجرد من أي سبب وبالتالي يجب اعتباره كأن لم يكن .
ويجب التفريق بين حالة فقدان السبب وبين الحالة التي لا يذكر فيها سبب الالتزام ففي الحالة الاولى نحن أمام التزام ذكر له سبب ولكنه سبب غير موجود .ففي هذه الحال يعتبر الالتزام كأن لم يكن .وفي الحالة الثانية نحن أمام التزام مجرد لم يذكر له سبب على الإطلاق ،ففي هذه الحالة يعتبر الالتزام صحيح ومعتبر عملا بالمادة 63 وبمقتضاها “يفترض في كل التزام أن له سببا حقيقيا ومشروعا ولو لم يذكر “.
الشرط الثاني :وجوب كون السبب مشروعا :نصت على هذا الشرط المادة 62 بقولها :”الالتزام المبني …على سبب غير مشروع يعتبر كأن لم يكن “.ثم أوضحت المقصود بعدم مشروعية السبب فقالت :”يكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو النظام العام أو القانون “.
وتقدير مشروعية السبب من حيث مخالفته للنظام العام يجب ان يقوم على أساس مفهوم النظام العام حسب القوانين والانظمة المرعية الإجراء فو ق التراب المغربي فمخالفة عقد للنظام العام في بلد أجنبي لا يستدعي تقرير بطلانه من قبل القضاء في المغرب إذا كان هذا العقد لا يتعارض و التشريع المغربي .
الشرط الثالث :وجوب كون السبب حقيقيا: يقصد بكون السبب حقيقيا أن لا يكون كذبا .وقد أشار المشرع المغربي إلى هذا الشرط في المواد 63 و64 و65 .ويتحقق الكذب في السبب عندما يعمد المتعاقدان عن سابق تصور وتصميم إلى الصورية عن طريق إخفاء سبب الالتزام الحقيقي –وهو عادة غير مشروع – وراء سبب ظاهر مشروع لا يمت إلى الحقيقة بصلة ،كان يوقع المدين سندا يقر فيه أن الدين المترتب في ذمته ناشئ عن قرض في حين أن سبب الدين الحقيقي هو اللعب والمقامرة .وطبيعي ان العبرة للسبب الظاهر المشروع الذي يعتد به كسبب حقيقي إلى أن يثبت العكس وهذا ما أوضحته المادة 63 بقولها :يفترض أن السبب المذكور هو السبب الحقيقي حتى يثبت العكس “.
وإذا تبث أن السبب المذكور غير حقيقي كان على من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يقيم الدليل عليه (المادة65).
المبحث الثالث :النظرية الحديثة في السبب
الباعث الشخصي أو سبب العقد
عيب النظرية التقليدية: إن النظرية التقليدية للسبب على صحتها وفائدتها تبقى نظرية قاصرة يعيبها أنها اقتصرت على الاعتداد بالغرض المباشر للالتزام دون سائر العوامل التي دفعت الملتزم على الالتزام والبواعث التي حملته على التعاقد .فإذا ما وهب شخص مبلغ من المال لآخر تقع هذه الهبة صحيحة بحسب نظرية السبب التقليدية أيا كانت البواعث التي حملت المتبرع على التبرع .مع أن هذه البواعث منها ما يكون مشروعا كما في الهبة لقريب معوز مساعدة له في أمور معيشته ،ومنها ما يكون غير مشروع كما في الهبة في سبيل الرشوة وشراء الضمائر أو كما في الهبة لخلق علاقة جنسية غير مشروعة .
فإذا كان المنطق القانوني السليم يقبل بصحة الهبة عندما يكون الدافع إليها باعثا مشروعا ،فإنه يأبى أن يقر صحة الهبة عندما يكون الدافع إليها باعثا غير مشروع .وهنا يكمن عيب نظرية السبب التقليدية ويتجلى نقصها في مواجهة جميع الحالات التي يجب اعتبار العقد فيها باطلا .
وجوب الاخذ في المغرب بالنظرية الحديثة :
لقد مر معنا أن المشرع المغربي أخذ بالنظرية الحديثة في السبب وساغ أحكامها في الفصول 62 إلى 65 من ق ل ع غير أن هناك من يرى بوجوب تفسير نصوص ق ل ع في ضوء النظرية الحديثة بحيث لا تعتبر هذه النصوص قاصرة على السبب في المفهوم الموضوعي ،أي على سبب الالتزام الذي لا يتبدل ولا يتغير في النوع الواحد من العقود ،بل شاملة أيضا السبب في المفهوم الشخصي ،أي الباعث الرئيسي الذي حمل المتعاقد على التعاقد والذي يختلف من عقد إلى عقد في النوع الواحد من العقود تبعا لمقاصد المتعاقد و أغراضه .
وبذلك لا يكفي لقيام الالتزام وصحته الاعتداد فقط بالغرض المباشر الذي هدف إلية الملتزم أي بالسبب في المفهوم الموضوعي بل لا بد أيضا من الاهتمام بالباعث الشخصي الذي حمل الملتزم على التعاقد أي بسبب العقد الذي يجب ان يكون مشروعا كذلك وإلا كان العقد باطلا .
ولا بد من التذكير إلى أنه يكتفى لبطلان عقد التبرع أن يكون الباعث غير المشروع متحقق قي جانب المتبرع وحده .أما في عقود العوض فلا بد حتى يقضى بالبطلان أن يكون الباعث غير مشروع مشتركا بين الطرفين أي أن يكون هو الدافع لكليهما على التعاقد أو على الاقل أن يكون أحدهما عالما بعدم مشروعية الباعث الذي حمل الفريق الآخر على إبرام العقد .
الفرع الخامس: ركـــــــــــن الشكلية و ركن التسليــــــــــــــــــــــم
الأصل في العقود أنها رضائية :القاعدة السائدة اليوم هي رضائية العقود ،بمعنى أن المتعاقدين ،بمجرد أن يقع رضاهما السليم على محل ،ويحمل على سبب مشروع ،يصلان إلى إبرام العقد الذي كانا ينويان عقده وليس عليهما اتباع شكل معين ليكون تعاقدهما صحيحا :فقد ينعقد العقد شفاهة أو بالمراسلة ،أو بالهاتف فأثاره تبقى هي هي لا تتغير و لا تتبدل ،أيا كان الشكل الذي ورد فيه العقد .
لكن استثناء تكون العقود شكلية أو عينية :حيث أن لمبدأ رضائية العقود بعض الاستثناءات .وهذه الاستثناءات تتجلى بالعقود الشكلية وبالعقود العينية .
آ – فالعقود الشكلية contrats formels هي التي يشترط لانعقادها علاوة على الشروط المتطلبة في العقود الرضائية ،توافر بعض المراسيم الشكلية .فبيع العقارات أو الحقوق العقارية مثلا يشترط فيه القانون أن يجري كتابة في محرر ثابت التاريخ (المادة 489 من ق ل ع ) والشركة التي يكون محلها عقارات أو غيرها من الأموال مما يمكن رهنه رهنا رسميا والتي تبرم لتستمر أكثر من ثلاث سنوات ،أوجب المشرع أن يحرر عقدها كتابة تحت طائلة البطلان (المادة 987) .
والعقود العينية contras réels هي التي يشترط لانعقادها ،علاوة على الشروط المتطلبة في العقود الرضائية ،أن يجري فيها تسليم الشيء المعقود عليه ،بحيث لا يتم العقد إلا إذا تم ركن التسليم فالرهن الحيازي مثلا لا ينعقد ” إلا بوضع الشيء المرهون فعليا في سلطة الدائن أو في سلطة أحد من الغير يتفق عليه بين المتعاقدين ” ( المادة 1188) ومن العقود العينية التي لا تتم إلا بالتسليم الوديعة (المادة 781) ،وعارية الاستعمال ،(المادة 830) ،وعارية الاستهلاك أو القرض (المادة 856).