حالات خاصة من المسؤولية
إن المشرع المغربي في الباب الذي خصه للجرائم وأشباه الجرائم لم يكتف بالبحث في المسؤولية الناجمة عن الخطأ الشخصي، ثم في المسؤولية عن فعل الغير أو عن الحيوان والأشياء، بل هو علاوة على ذلك عرض لحالات خاصة من المسؤولية التقصيرية، وهذه الحالات الخاصة التي عالجها المشرع هي:
الفرع الأول : حالة مسؤولية موظفي الدولة والدولة
خص المشرع المغربي لمسؤولية الدولة والبلديات ولمسؤولية موظفيها باعتبارها حالات خاصة من المسؤولية، المادتين 79 و80 من قانون الالتزامات والعقود، فالمادة 79 ورد فيها أن ” الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها “. والمادة 80 أوضحت أن “مستخدمي الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم. ولا يجوز مطالبة الدولة والبلديات بسبب هذه الاضرار، إلا عند إعسار الموظفين المسؤولين عنها “.
يتضح من نص هاتين المادتين، أن المشرع المغربي فرق بين الأخطاء الإدارية أي الأخطاء الناجمة عن سير الإدارة أو بعبارة أخرى الأخطاء المصلحية التي تتصل بممارسة الوظيفة، وبين أخطاء الموظفين الشخصية أي الأخطاء التي تنفصل عن ممارسة الوظيفة وتقوم على تدليس أو خطأ جسيم يقع من الموظف في أداء وظيفته.
فالأضرار الناجمة عن الأخطاء الإدارية لا يسأل عنها الموظفون، بل تسأل عنها الدولة أو البلدية وحدها. وهذا ما أوضحته المادة 79 بقولها :” الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها “.
أما الأضرار الناجمة عن الأخطاء الشخصية التي يرتكبها موظفو الدولة والبلديات فيسألون عنها هم شخصيا، وبهذا قالت الفقرة الأولى من المادة 80 : “مستخدمو الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم “.
ولقد منح المشرع المغربي على خلاف نظيره الفرنسي، للمضرور حق مطالبة الدولة والبلديات بالتعويض عليه عن أضراره في حالة إعسار الموظف المسؤول عن هذه الأضرار تأسيسا على أن الدولة أو البلدية يجب أن تتحمل هي وزر سوء اختيار ومراقبة موظفيها، وبالتالي تبعة الأضرار التي تنجم للغير عما يرتكبه هؤلاء الموظفون من تدليس أو أخطاء جسيمة في أداء وظائفهم.
على أن دعوى التعويض التي يمكن رفعها على الدولة أو البلدية لمطالبتها بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن تدليس الموظف أو خطأه الجسيم، تتصف بطابع الدعوى الاحتياطية بمعنى أن ممارستها لا تكون إلا بعد أن يلاحق المضرور الموظف المسؤول ويظهر عدم جدوى هذه الملاحقة بسبب إعسار الموظف. وبهذا قالت المادة 80 “ولا تجوز مطالبة الدولة والبلديات بسبب هذه الأضرار إلا عند إعسار الموظفين المسؤولين عنها “.
الفرع الثاني : حالة مسؤولية القاضي
عرض قانون الالتزامات والعقود لمسؤولية القاضي الذي يخل بمقتضيات منصبه، باعتبارها حالات خاصة من المسؤولية في المادة 81 فقال : ” القاضي الذي يخل بمقتضيات منصبه يسأل مدنيا عن هذا الإخلال في مواجهة الشخص المضرور في الحالات التي تجوز فيها مخاصمته “.
فالقاضي لا يكون إذن مسؤولا عن جميع الأخطاء التي يمكن ان يرتكبها أثناء قيامه بأداء مهام وظيفته، بل إنما تترتب مسؤوليته في الحالات التي يكون فيها محل لمخاصمته ليس إلا.
ولمعرفة الحالات التي تجوز فيها مخاصمة القاضي يجب الرجوع إلى المسطرة المدنية. فالمادة 255 من قانون المسطرة المدنية أوضحت أن مخاصمة القاضي تقبل في الحالات التالية :
أولا : إذا وقع من القاضي تدليس أو غش أو ثبت عليه أخذ رشوة وكل ذلك سواء أثناء سير الدعوى أو عند إصدار الحكم ؛
ثانيا : إذا كانت مخاصمة القاضي قد قضى بها نص صريح في القانون ؛
ثالثا: إذا كان ثمة نص في القانون يقضي باعتبار القاضي مسؤولا تحت طائلة العطل و الضرر ؛
رابعا : إذا امتنع القاضي عن الفصل في القضية وارتكب ما يسمى اصطلاحا إنكار العدالة.
ففي هذه الحالات وفيها وحدها يثبت للمضرور حق مطالبة القاضي بالتعويض عليه عما أصابه من ضرر، أما فيما عدا ذلك فالخطأ الذي يرتكبه القاضي يكون سببا للطعن في حكمه أمامه نفسه عن طريق التعرض أو إعادة النظر أو أمام المرجع القضائي الأعلى درجة منه عن طريق الاستئناف أو طلب النقض، ولكنه لا يمكن ان يشكل مدارا لمسؤوليته التقصيرية.
وجدير بالذكر، أن الدولة تتحمل المسؤولية المدنية الناتجة عن الأحكام التي تصدر بالتعويضات عن الضرر الناجم بسبب الأفعال التي ارتكبه القاضي وأدت إلى مخاصمته. وإذا ما اضطرت الدولة لأداء التعويضات إلى الطرف المضرور، فإن من حقها الرجوع على القاضي الذي تسبب في الضرر.
ولا تتوقف مطالبة المضرور للدولة بأداء التعويضات التي يستحقها على وجود المسؤول في حالة إعسار، كما تقضي بذلك المادة 80 بالنسبة للموظفين عموما، بل إذ الدولة تحل حكما محل القاضي في الالتزام بالتعويض على المضرور دون ما نظر إلى إعسار القاضي أو ملاءته.
الفرع الثالث : حالة مسؤولية حائز الشيء
الحيازة هي السلطة الواقعية أو السيطرة الفعلية على شيء منقول أو على حق عيني على شيء منقول أو ثابت، والأصل أن تمارس الحيازة من قبل المالك أو صاحب الحق العيني مباشرة أو من قبل وسيط يباشرها باسمه كما في الرهن أو الوكالة أو الإيجار، حيث يمارس الدائن المرتهن أو الوكيل أو المستأجر الحيازة لحساب الراهن أو الموكل أو المؤجر.
ولكن، قد يحصل أن يحوز الشيء شخص غير المالك أو غير صاحب الحق العيني عليه، وأن يمارس هذا الشخص الحيازة باسمه هو ولحسابه الشخصي كمشتري العقار من غير مالكه أو الغاصب. فمثل هذا الشخص تترتب عليه مسؤولية تقصيرية قبل مالك الشيء أو صاحب الحق العيني عليه.
ولمعرفة مدى هذه المسؤولية لكونها حالات خاصة من المسؤولية، يجب الرجوع إلى المواد 101 إلى 104 من قانون الالتزامات والعقود حيث عرض المشرع لمسؤولية الحائز سيء النية، ثم لمسؤولية الحائز حسن النية، ثم لمسؤولية حائز المنقول إذا حوله بعمله على نحو يكسبه زيادة بالغة عما كان عليه وهو مادة أولية. ولسوف نبحث في مختلف هذه المسؤوليات.
مسؤولية الحائز سيء النية : يترتب على الحائز سيء النية أن يرد مع الشيء جميع الثمار التي جناها أو التي كان يستطيع أن يجنيها لو أنه أدار الشيء الإدارة المعتادة وذلك من وقت وصول الشيء إليه. ولا يميز من حيث مسؤولية الرد بين الثمار الطبيعية (كثمار الأشجار النابتة نبت الطبيعة أو بر الجمل أو صوف الأغنام) والثمار الصناعية (كثمار الاشجار المغروسة بعمل الإنسان أو المحاصيل الزراعية) والثمار المدنية ( كأجور الأبنية أو فائدة النقود).
من حيث المصروفات : يثبت للحائز سيء النية استرداد المصروفات الضرورية التي أنفقت في حفظ الشيء وفي جني الثمار على أن يكون له أن يباشر هذا الاسترداد، إلا على الشيء نفسه دون الأموال الأخرى التي تعود للمالك.
أما مصروفات رد الشيء كمصروفات نقله مثلا فتقع على عاتق الحائز سيء النية. ومادام المشرع حصر حق الحائز سيء النية في استرداد المصروفات الضرورية التي أنفقها في حفظ الشيء وفي جني الثمار، فإنه يمتنع عليه أن يطالب باسترداد المصروفات النافعة ومصروفات الزينة التي يكون أنفقها على الشيء أثناء وجوده في حيازته.
من حيث تبعة هلاك الشيء وتعيبه : القاعدة العامة أن الحائز سيء النية يتحمل تبعة هلاك الشيء أو تعيبه ولو بحادث طارئ أو قوة قاهرة.
فإذا هلك الشيء وكان من الأشياء القيمية (وهي التي تتميز عن غيرها بصفات خاصة تعينها تعيينا ذاتيا بحيث لا يقوم غيرها مقامها ولو من نوعها كمنزل أو لوحة فنان) ترتب على الحائز سيء النية أن يدفع قيمته مقدرة في يوم وصوله إليه. أما إذا كان من المثليات (وهي الأشياء التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء والتي تقدر عادة في التعامل بين الناس بالعدد أو المقاس أو الكيل أو الوزن كالقمح أو الرز أو الفضة) فإنه يلزم برد مقدار يعادله.
وإذا تعيب الشيء فقط قيميا كان أو مثليا تحمل الحائز سيء النية الفرق بين قيمته في حالته السليمة وقيمته وهو في حالته المعيبة، هذا فيما إذا كان الشي بقي رغم تعيبه صالحا لأن يستعمل فيما أعد له، أما إذا تعيب الشيء لدرجة أنه أصبح معها غير صالح لذلك، فإن الحائز سيء النية يتحمل قيمته كاملة إذا كان قيميا ويترتب عليه رد مثله إذا كان مثليا.
إذا توفي الحائز سيء النية فالالتزامات التي كانت مترتبة عليه شخصيا حتى وفاته، تنتقل إلى تركته سواء بالنسبة للثمار أو بالنسبة لهلاك الشيء أو تعيبه وذلك عملا بالفقرة الأولى من المادة 105 وبمقتضاها ” في الجريمة وشبه الجريمة تكون التركة ملزمة بنفس التزامات الموروث “.
يضاف إلى ذلك، أن الوارث الذي انتقل إليه الشيء وهو يعلم عيوب حيازة سلفه يضمن مثله الظرف الطارئ والقوة القاهرة كما أن يلتزم برد الثمار التي جناها من وقت وصول الشيء إليه ( الفقرة الثانية من المادة 105 ) أما إذا كان يجهل عيوب حيازة سلفه، فإنه يعامل معاملة الحائز حسن النية.
مسؤولية الحائز حسن النية : عرض المشرع لمسؤولية الحائز حسن النية في المادة103 حيث عرف الحائز حسن النية وبين ما يترتب على حيازته من آثار بالنسبة للثمار والمصروفات.
فالحائز حسن النية، هو من يحوز الشيء بمقتضى سند ناقل للملكية يجهل عيوبه، كان يكون اشترى أحد المنقول أو العقار من شخص يعتقد أنه مالكه ثم يتبين فيما بعد أن البائع لا يملك الشيء المبيع.
وحكم الحائز حسن النية بالنسبة للثمار والمصروفات يتلخص في القاعدتين التاليتين :
1- يتملك الحائز حسن النية الثمار ولا يلزم إلا برد ما يكون منها موجودا في تاريخ رفع الدعوى عليه برد الشيء أو لتك التي يجنيها بعد ذلك. فحائز الشيء حسن النية له إذن الاحتفاظ بالثمار الطبيعية والصناعية التي يكون قطفها وبالثمار المدنية التي يكون قبضها حتى تاريخ رفع الدعوى عليه برد الشيء. أما الثمار الطبيعية والصناعية التي لم تقطف والثمار المدنية التي لم تقبض في تاريخ رفع الدعوى برد الشيء، فإنها تبقى من نصيب المالك حتى ولو كانت الثمار الطبيعية أو الصناعية قد نضجت وحان قطافها وكانت الثمار المدنية غير المقبوضة مترتبة عن مدة سابقة.
وتجدر الإشارة، إلى أن الحائز حسن النية إذا ما كان قبض ثمارا مدنية عن مدة لا حقة لتاريخ رفع الدعوى عليه برد الشيء، كأن يكون استوفى إيجار عقار بصورة مسبقة عن سنتين وأقام عليه المالك الدعوى باسترداد ملكه بعد سنة واحدة، فإن الحائز حسن النية يلزم بأن يرد للمالك أجرة السنة غير الحالة التي قبضها مسبقا.
2 – يتحمل الحائز حسن النية مصروفات الصيانة والحفظ ومصروفات جني الثمار عملا بالقاعدة الكلية الغرم بالغنم، وعليه لا يستطيع استرداد مثل هذه الثمار.
ومادام المشرع حصر المصروفات الممتنع على الحائز حسن النية استردادها بالمصروفات الضرورية المنفقة في سبيل حفظ الشيء وجني ثماره ليس إلا، فإنه يتعين اعطاؤه الحق في استرداد المصروفات النافعة ومصروفات الزينة التي يكون أنفقها على الشيء وهو في حيازته.
أما حكم الحائز حسن النية بالنسبة للهلاك الشيء أو تعيبه فلم يعرض له المشرع. ولكن يمكن أن نستنتج من المفهوم المخالف للمادة 102 المتعلقة بالحائز سيء النية، أن الحائز حسن النية لا يسأل عن هلاك الشيء أو تعيبه، إلا إذا حصل بسببه. أما إذا حصل ذلك بحادث مفاجئ أو قوة قاهرة فلا يسأل عنه.
مسؤولية حائز المنقول إذا حوله بعمله : نصت المادة 104 عل ان الحائز المنقول سواء كان حسن النية أو سيء النية، إذا حوله بعمله على نحو يكسبه زيادة بالغة في قيمته عما كان عليه وهو مادة أولية (كأن يصيغ صائغ عقدا أو خاتما من سبيكة ذهبية أو يرسم فنان لوحة على قطعة من قماش )، فإنه يسوغ له الاحتفاظ به شرط أن يدفع مقابل ذلك :
1 – قيمة المادة الأولية
2 – تعويضا تقدره المحكمة التي يجب عليها أن تراعي كل المصالح المشروعة لمالك هذه المادة الأولية ومن بينها ما كان للشيء في نفسه من قيمة معنوية.
على أن المشرع أجاز للحائز القديم أن يسترد الشيء الذي لحقه التحول، شريطة أن يدفع للحائز الجديد الزيادة في القيمة التي أعطاها للشيء.
ففي حالة تحول المنقول، القول إذن للحائز القديم الذي له الخيار بين أن يتملك الشيء الذي لحقه التحول، وبين أن يترك هذا الشيء للحائز الجديد. فإذا اختار تملكه وجب عليه أن يؤدي لهذا الأخير الزيادة في القيمة التي أعطاها بعمله للشيء، وإن اختار تركه حق له أن يسترد من الحائز الجديد قيمة المادة الأولية مع التعويض.
وفي جميع الأحوال، يكون للحائز القديم امتياز على كل دائن آخر من دائني الحائز الجديد. ومن شأن هذا الامتياز أن يضمن له استرداد الشيء الذي لحقه التحول أو استيفاء قيمة المادة الأولية والتعويض عند الاقتضاء بالأفضلية على الدائنين كافة.
وبهذا يكون المشرع المغربي قد نظم ثلا حالات خاصة من المسؤولية التقصيرية في قانون الالتزامات والعقود