النظام القانوني للموثق العصري

النظام القانوني للموثق العصري

مقدمة

شكلت مرحلة الاستعمار أو ما يعرف بعهد الحماية الفرنسية بالمغرب،  نقطة تحول ستؤثر على تاريخ المغرب سواء من الناحية القانونية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك أن الاستعمار الفرنسي حاول إبان فترة الاحتلال، استغلال خيرات المغرب بشتى الطرق، إما قانونية أو غير قانونية.

مما جعله يصدر مجموعة من القوانين التي تخدم مصالح الأجانب والفرنسيين بصفة خاصة، ويعتبر ظهير 4 ماي 1925 من أهم ما صدر في تلك الحقبة الاستعمارية، والذي خلق استنكارا وسخطا في المجتمع المغربي ذي المرجعية الإسلامية.

وبعد مرور قرابة قرن من الزمن على هذا القانون الذي كان يتعارض في مجمل أحكامه مع النظام الإسلامي الذي ينهجه المغرب، اصدر المشرع المغربي قانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، الصادر في ذي الحجة 1432 الموافق 22 نونبر 2011. والذي عمل على نسخ ظهير 4 ماي 1925، وأتى بمضامين ومقتضيات من شأنها تفادي تلك الملاحظات والانتقادات، وليواكب في نفس الوقت مستجدات تنظيم المهن القانونية والقضائية التي عرفت في العشر السنين الماضية تعديلات وتغييرات[1].

فالضرورة الاستثمارية والحاجة إلي نصوص قانونية تشجع الاستثمار والمستثمرين أصبحت مطلبا لكل فاعل اقتصادي وقانوني فعلى المشرع أن يلبي النداء ويحقق الأمنية وفي ذلك مصلحة عامة تخدم البلاد والعباد، ولن يرضينا أن مستثمر أجنبيا زار بلادنا وأراد أن يستثمر أمواله في وطننا ولما اراد اقتناء بقعة أرضية للشروع في مشروعه، بحث عن السند القانوني لتوثيق عقد ملكيته، فاصطدم بواقع مر وهو ظهير 04 ماي 1925 المتعلق بتنظيم شؤون محرري الوثائق الفرنسيين فاندهش لعنوانه، وازداد اندهاشه عندما اكتشف في الفصل السابع من الظهير المذكور بأنه يشترط في كل مترشح لوظيفة موثق أن يكون فرنسيا فما كان منه إلا أن صرف فكرته عن الاستثمار في المغرب وانصرف إلى وجهة أخرى[2].

تجدر الإشارة إلى أن قانون 32.09 أحدث نقلة نوعية في مجال التوثيق، وذلك من خلال تجاوب كبير من طرف الموثقين بالرغم من بعض العيوب، مما يجعله يتحول إلى مشروع الواقع وهوما أطلق عليه مدونة التوثيق العصري الجديد وفق قانون 32.09، الذي لم يدخل حيز التنفيذ إلا في 24 من شهر نونبر 2011، وقد جاء هذا القانون وبحوزته مجموعة من المستجدات تهم الأوضاع القانونية للموثق العصري، ملغيا ومعدلا بعض الفصول الواردة في القانون السابق والذي طالما اتسم ببعض العيوب.

لا سيما تلك المتعلقة بشروط ولوج مهنة التوثيق، حيث ستصبح المهنة مفتوحة في وجه الحاصلين على شهادة الإجازة في الحقوق، والبالغين على الأقل 23 سنة و45 على الأكثر، وكذا في مسألة التمرين والتعيين الموثقين ومرافقيهم وتحديد حقوقهم وواجباتهم بالإضافة إلى مسؤوليتهم المدنية والجنائية، والرقابة على أعمالهم.

والإشكال المطروح بهذا الصدد، ما هي الوضعية القانونية للموثق العصري في ظل مقتضيات قانون التوثيق العصري الجديد 32.09؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين أساسين :

المبحث الأول : الأحكام العامة المنظمة لمهنة التوثيق

المبحث الثاني : حقوق والتزامات الموثق والرقابة على عمله ومسؤوليته

واجهة العرض

المبحث الأول: الأحكام العامة المنظمة لمهنة التوثيق

يتلقى الموثق العصري في إطار تصدي لمهام المنوطة به قانونا مجموعة من الرسوم والعقود التي يرغب الأطراف في إضفاء الصبغة الرسمية عليها، وذلك في نطاق اختصاصه المكاني والنوعي كما هو منصوص عليه في ظهير 4 ماي 1925م، ويتوجب على المترشح لاكتساب صفة الموثق العصري استيفاء مجموعة من الشروط مع أداء فترة تمرينية تكلل اجتياز امتحان التخرج.

ولتحليل أكثر سوف نقوم بتقسيم هذا المبحث الى مطلبين بحيث سنتطرق الى الحديث في المطلب الأول عن كيفية ولوج مهنة التوثيق، أما في المطلب الثاني فسوف نخصصه للاختصاص الموثق العصري.

المطلب الأول: كيفية ولوج مهنة التوثيق

يشترط القانون المنظم لمهنة التوثيق العصري لكي يكتسب المترشح صفة موثق عصري بمرور على مجموعة من المراحل وهذا ما سنعمل على دراسته في الفقرات الآتية:

الفقرة الأولى: شروط الانخراط في مهنة التوثيق العصري

اشترط القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق في مادته الثالثة على كل مرشح أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط ومن هاته الشروط:

  1. أن يكون حامل الجنسية المغربية والأهلية القانونية                             

 اشترط المشرع في المرشح لمهنة التوثيق بأن يكون مغربيا وعليه يعتبر هذا الشرط من بين المستجدات التي جاء بها قانون 32.09  وذلك بخلاف الظهير السابق (4  ماي 1925 ) الذي كان يحث على شرط الجنسية الفرنسية وعدم مزاولة هذه المهنة على المغاربة،[3] لكن الواقع العملي يعكس ما أقره الظهير السالف الذكر حيث أن الموثقين العصريين يخضعون في قبولهم لمهنة التوثيق لهذه الشروط وخاصة الشرط المتعلق بالجنسية إلى أن تمت مغربة هذا الظهير سنة 1965 دون تعديله وإدماجه في الحقبة بعد استقلال المغرب إلى غاية2011  حيث تم اعتماد شرط الجنسية المغربية.[4]   

هذا فيما يخص اشتراط المرشح الجنسية المغربية، أما بخصوص شرط الأهلية القانونية نجد أن المادة 3 من قانون 32.09 حثت على المرشح أن يكون بالغا من العمر 23 سنة ميلادية كاملة على أن لا يتجاوز 45 سنة باستثناء الفئات المذكورة في المادة 8 وبعده.

الفقرة الثانية: التمرين وتعيين الموثق

أولا: التمرين

 يكتسي التمرين أهمية بالغة في المرشح لمزاولة مهنة التوثيق، ونظرا لهذه الأهمية فقد نظمه ظهير 4 ماي 1925 (ظهير فانتوز). وقد أعاد المشرع المغربي تنظيم التمرين وذلك في اطار القانون 32.09 وذلك على مستويين:

  1. أهمية التمرين                                                                              
  2. يعتبر التمرين وأشغال التدريب في المهن الحرة مرحلة هامة ومميزة، فهي تكسب المترشحين لمزاولتها مهارات عالية، واطلاعا وإلمام على تقنيات العمل وكيفيات التصرف في الوقت المناسب وبالشكل اللائق.

وإن التمرين الذي يجتازه المقبل على مهنة التوثيق العصري يتحدد في الاتصال ببعض الإدارات التي يتوقف عمله على موافقتها وخاصة من ذلك المحافظة العقارية وإدارة الضرائب والمحاكم بكل أصنافها وغيرها من المرافق العمومية… وعموما فإن التمرين يمكن المرشح من الاطلاع على مجمل الوثائق ونسخها وتحديد معلوماتها وتفاعيلها وكيفية ملئها وذلك تحت تأطير الموثق.[8]

إن الحديث عن مدة التمرين يقتضي منا أن نميز بين ظهير 4 ماي 1925 وقانون التوثيق الجديد 32.09 في  إطار ظهير  4 ماي 1925 في مادته الثامنة فنجده قد حدد مدة التمرين في أريع سنوات بالنسبة للحاصلين على شهادة الإجازة في الحقوق أو شهادة الكفاءة المهنية من إحدى مدارس التوثيق المعترف بها في فرنسا، أما الأشخاص الذين لا يحصلون على إحدى هاتين الشهادتين فإن فترة التمرين لديهم تتجلى في ستة سنوات. هذا على مستوى ظهير 4 ماي 1925 غير أنه بالرجوع الى قانون 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق فحسب المادة 6[9]  فإن الناجح في المباراة يقضي فترة أربع سنوات من التمرين يتم قضاء سنة في معهد التكوين المهني للتوثيق وثلاث سنوات بمكتب الموثق. 

وعليه فإن القانون 32.09 أبقى على مدة الأربع سنوات التي يقضيها المرشح في التمرين.    

 تطرق المشرع المغربي إلى حالات الإعفاء من التمرين الخاص بمهنة التوثيق وذلك في إطار المواد 8 و9 من قانون 32.09 بمثابة قانون التوثيق حيث نصت المادة الثامنة منه على حالات الإعفاء وذلك بالنسبة للجهات التالية :

وهذا وبالرجوع إلى المادة 9 من قانون 32.09 نجدها كذلك قد أعفت عن الموثقين العصريين الذين انقطعوا عن ممارسة المهنة لأسباب لا تتعلق بشرف المهنة من المباراة والتمرين والاختبارات والامتحان المهني. غير أن وبتحليل مضامين المادة 8 والمادة 9 من قانون 32.09 [11] نجدها قد خصت حالات الإعفاء على مجموعة من الجهات والتي هي في حقيقة الأمر لا تنسجم مهامها المهنية مع قواعد مهنة التوثيق .

حيث كانت مجحفة في حق بعض الجهات الأولى بممارسة المهنة وذلك من قبيل الأساتذة الجامعيين والقضاة والمحامين وغيرهم.

ثانيا: التعيين

بعد قضاء فترة تمرين لمدة سنتين، يقوم المرشح لمهنة التوثيق العصري بأداء امتحان وذلك الاكتساب صفة كاتب أول، ويسمى هذا الامتحان كفاءة مهنية. وبعد اكتساب المتمرن لصفة كاتب أول يمكنه اجتياز امتحان التخرج ويسمى الامتحان المهني يمنح للناجح فيه صفة موثق. ويمكنه بها فتح مكتبه  ومزاولة المهنة بعد مسك ظهير التسمية واداء اليمين وباقي الاجراءات التي تسبق الشروع في ممارسة العمل.[12]

– الامتحانات

نصت المادة 6 من قانون 32.09 على أنه يجب على المتمرن أن يجتاز بنجاح-بعد انهائه فترة التمرين-ا اختبارات وامتحانا مهنيا.                                                                 

  يتم اجراء اختبارات للمتمرنين في نهاية كل سنة من فترة التمرين، ما عدا السنة الاخيرة التي يجرى فيها الامتحان المهني، وهذه الاختبارات تنظم من قبل معهد التكوين المهني للتوثيق، الذي يعلن مديره عن تاريخها ومكانها.

وتشتمل هذه الاختبارات كل سنة على اختبار كتابي في مواضيع مختلفة أهمها المعاملات العقارية والتجارية والعقود الخاصة، وآخر شفوي في مواضيع اهمها تقنيات تلقي العقود واستكمال اجراءاتها والنصوص المنظمة لمهنة التوثيق وقواعد المحاسبة، والقانون البنكي وقانون الاستثمار والتنظيم القضائي وانظمة التامين …الخ، وأن النتائج النهائية للاختبارات تعلن في كل سنة بمقر اجتيازها، ويؤخذ مجموع الدرجات المحصل عليها بعين الاعتبار عند التعيين.[13] 

بالنسبة الى نظام الامتحان المهني يجتازه المتمرنين الذين قضوا فترة التمرين طبقا للمادتين 6 و128 من قانون 32.09،  فالمادة 6 تطرقت لامتحان المهني حيث احالت هذه المادة على صدور نص تنظيمي يبين كيفية اجراء مباراة الامتحان المهني ومدة الاختبارات وغيره. وفي حالة رسوب في الامتحان المهني نصت المدة 7 على امكانية تجديد فترة التمرين لثلاث فترات لا تتجاوز كل واحدة منها سنة واحدة تكلل في نهايتها بالامتحان المهني.

-التعيين

نصت المادة 10 على أن الموثق يعين ويحدد مقر عمله بقرار لرئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل، بعد ابداء اللجنة المكلفة بإبداء الرأي في تعيين، رأيها في الموضوع. 

 كما نصت المادة الثالثة عشر أكد على أداء اليمين أمام محكمة  الاستئناف المعين بدائرتها الموثق وتماشيا ومقتضيات المادة الثانية عشر من القانون رقم 32-09 والتي خولت للموثقين ممارسة مهامهم على الصعيد الاستئنافي

وفور أداء اليمين من الموثق يتوجب عليه وضع توقيعه الكامل بكتابة الضبط لدى محكمة الاستئناف التي سوف يعمل بدائرة نفودها.

وقد ألزمت المادة الرابعة عشر من القانون رقم32-09  كل موثق باتخاذ طابع يحمل اسمه وصفته وفق نموذج موحد يقترحه المجلس الوطني للموثقين على أن لا يعمل به إلا بعد موافقة وزير العدل عليه إزاء هذا يتوجب على الموثق قبل مباشرة مهامه مسك الظهير بتسميته وتعيين مقره، حيث نصت المادة العاشرة من القانون 32-09 على أن الموثق العصري يعين بقرار من الوزير الأول (رئيس الحكومة حاليا) باقتراح من وزير العدل وإن كان من الأنسب أن يتولى وزير العدل بنفسه التعيين بقرار منه بصفته الوزير المباشر لشؤون التوثيق إسوة بصنعته مع السادة العدول وعلى كل حال فهذه الخطوة تصب في درب الإصلاح. [14]

الفقرة الثالثة: حالات التنافي

بالرجوع إلى المادتين الرابعة والخامسة من قانون 32.09 يمكن حصر الوظائف والأعمال التي تتنافى مع مهنة التوثيق العصري فيما يلي:

  1. الوظائف القضائية: حيث تتنافى مهنة التوثيق العصري مع مهام المحامي والقاضي والعون القضائي والترجمان والناسخ والعدل وغيره.
  2. الوظائف الإدارية حيث تتنافى مهنة التوثيق العصري مع جميع الوظائف الإدارية في أسلاك الوظيفة العمومية سواء في التعليم أو الداخلية أو المالية وذلك وفق للمادة 4 من قانون 32.09.
  3. الوظائف المأجورة: حيث تتنافى مهنة التوثيق العصري مع كل عمل يؤدى عنه أجر سواء تعلق الأمر بالقطاع العام أو الخاص كالوكالة والوساطة والسمسرة والاستشارة القانونية وذلك وفق المادة 5 من  قانون 32.09.
  4. الأعمال التجارية: حيث تتنافى مهنة التوثيق العصري مع مزاولة أي نوع من أنواع التجارة.[15]                                                             

المطلب الثاني: اختصاصات الموثق العصري

نقصد باختصاص الموثق أن يكون مختصا بكتابة المحرر من حيث موضوعه ومكان تحريره، أي أن تكون له ولاية موضوعية للمحرر الذي أقامه وأن تكون هذه الولاية في المكان الذي حرره فيه، فلا يكفي لكي يكون المحرر رسمي أن يتم بواسطة موثق مؤهل لمزاولة مهامه بل يلزم أن يكون مر داخل نطاق اختصاصه الموضوعي والمكاني، وهذا ما سنتطرق إليه في فقرتين، الاختصاص المكاني (الفقرة الأولى) والاختصاص النوعي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الاختصاص المكاني

حسب المادة 12 من قانون 32.09 “يمارس الموثق مهامه بمجموع التراب الوطني. غير أنه يمنع عليه تلقي العقود وتوقيع الأطراف خارج مقر مكتبه. يمكن للموثق لأسباب استثنائية تلقي تصريحات أطراف العقد والتوقيع على العقود خارج مكتبه وذلك بإذن من رئيس المجلس الجهوي وإخبار الوكيل العام للملك لدى المحكمة المعين وبدائرتها.”

حددت المادة 12 المجال الترابي الذي يمارس فيه الموثق مهامه التوثيقية، فنصت مبدئيا على أن الموثق يزاول عمله على صعيد أرض الوطن بكاملها، بمعنى أن مجال عمل الموثق غير محدد بدائرة محكمة لاستئناف التي يعمل بدائرتها أو بغيرها من الدوائر، وإنما له الحق في أن يتلقى العقود والاتفاقات من الأطراف على الصعيد الوطني، متى حضروا لديه بمكتب، أنى كانت إقامتهم وسكناهم، ومهما كان نوع المعاملة، معاوضة أو تبرعا عقارا أو منقولا أو غيرها.

غير أنه يمنع عليه تلقي العقود وتوقيع الأطراف خارج مقر مكتبه، أي أنه مبدئيا يمنع عليه الخروج أو التوجه الى خارج مكتبه -ولوكان في نفوذ المحكمة المعين بدائرتها- لتلقي عقد من العقود كيفما كان نوعه، سواء تعلق الأمر بأطراف يسكنون في دائرة محكمة الاستئناف المعين بدائرتها، فإذا كان الموثق ملزما بتلقي اتفاقات الأطراف ما دامت مشروعة وغير مخالفة للنظام العام فإن عمله هذا ينبغي أن يمارس داخل الاختصاص الترابي الذي حدد له، ولا يحق له ذلك خارج هذه الدائرة الترابية، وإلا تعرضت محرراته للبطلان كمحررات رسمية، وإلا تبقى لها قوة الورقة العرفية إذا كانت تتضمن توقيعات الأطراف الذين يلزم رضاهم لصحة الورقة.[16]  

وعلى الرغم من أن هذه المقتضيات قد تسبب صعوبات وعراقيل لبعض أطراف التعاقد التي عليها التنقل إلى مدن بعيدة حيث يوجد مكتب الموثق الذي يتمسك به أحدهم، لا سيما وأن العقود العقارية غالبا ما تكون متعددة الأطراف ومختلفة المواضيع ومتداخلة يتوقف بعضها على بعض، بيعًا وشراءً وقرضاً ورهناً ورفعاً لليد وغيرها، لأن غاية حماية المهنة من التلاعبات أولى بالمراعاة من غاية تقريب الموثق من أطراف التعاقد الذين يجب عليهم أن يتحملوا مسؤولية اختيار الموثق البعيد عنهم. وللتخفيف من هذه الصعوبات، ومراعاة لبعض الأحوال الخاصة، نصت الفقرة الأخيرة من المادة على استثناء من القاعدة العامة المشار إليها أعلاه وأجازت للموثق لأسباب استثنائية تلقي تصريحات الأطراف والتوقيع على العقود خارج مقر مكتبه، وذلك بعد حصوله على إذن من رئيس المجلس الجهوي للموثقين أولا، ثم إخبار الوكيل العام للملك لدى المحكمة المعين بدائرتها ثانيا.

وقد خالف المشرع في قانون 32.09 الاختصاص المكاني في ظهير 4 ماي 1925 المتعلق بالتوثيق العصري الذي ربط الاختصاص المكاني للموثق بدائرة نفوذ محكمة الاستئناف أو المحكمة الابتدائية أو محكمة الصلح كما جاء في الفصل الثاني من الظهير المنظم ” يمكن للموثقين المقيمين بالرباط مباشرة خطتهم في كل الدائرة القضائية لاختصاص محكمة الاستئناف، أما الذين يقيمون بدائرة المحكمة الابتدائية، فإنهم يباشرون خطتهم في نطاق دائرة اختصاص هذه المحكمة…..”

الفقرة الثانية: الاختصاص النوعي

يقصد بالاختصاص النوعي أي أن يكون الموثق مختصا بنوع الورقة التي يحررها وألا يوجد مانع قانوني يحول دون مباشرته لتلقيها، بحيث إذا نزع منه الاختصاص وقت تحرير الورقة وهو عالم بذلك كانت ورقته باطلة كمحرر رسمي إلا أن يكون الأطراف حسني نية.[17]

ومن هنا فالموثق يكون مختصا بتحرير الاتفاق من حيث الموضوع، ولهذا فالمشرع سمح له بممارسة عملية التوثيق داخل اختصاصه النوعي فقط، ولا يمكنه ممارسة أعمال أخرى خارجة عن اختصاصه، وذلك ما نصت عليه المادة 35 من قانون 32.09 “يتلقى الموثق – ما لم ينص القانون على خلاف ذلك – العقود التي يفرض القانون إعطاءها الصبغة الرسمية المرتبطة بأعمال السلطة العمومية أو التي يرغب الأطراف في إضفاء هذا الطابع عليها ويقوم بإثبات تاريخها وضمان حفظ أصولها وبتسليم نظائر ونسخ منها.”

 وانطلاقا من هذه المادة يتبين لنا أن الموثق مختص بتلقي جميع العقود التي يفرض القانون اعطائها الصبغة الرسمية المرتبطة بأعمال السلطة العمومية أي العقود التي ينص القانون على وجوب تلقيها وتحريرها بواسطة الشكل الرسمي تحت طائلة البطلان، وذلك مثل عقود العمرى والمغارسة والهبة والصدقة التي تنص مدونة الحقوق العينية على التوالي في المواد 105 و268 و274 و291 على أنه يجب تحت طائلة البطلان أن تبرم في محرر رسمي.

وتقتضي عبارة المادة 35 المذكورة أن لأصل في مجال الاختصاص النوعي للموثقين أنه غير محصور ولا محدود بنوع معين، وأنهم أصبحوا مختصين في تلقي كل العقود ولاتفاقات التي ينص القانون على تحريرها بواسطة المحررات الرسمية أو التي يريد الأطراف تحريرها بذات الشكل إلا إذا نص القانون على جعلها من اختصاص جهة رسمية أخرى،[18] كما يستثنى من اختصاص الموثق النوعي العقود المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسلمين والوقف ونحوها فالموثق غير مختص نوعيا في توثيق عقد الزواج والطلاق والرجعية والتحبيس والرجوع، حيث جعلها المشرع من اختصاص العدول المنتصبين للإشهاد.

ونشير ضمن الحالات التي يتجاوز فيها الموثق نطاق اختصاصه النوعي إلى قضية عرضت على المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، حيث تقدم أحد الأطراف بمحرر عرفي لإثبات ما يدعيه، وقد تمت المصادقة على صحة توقيعه من قبل أحد الموثقين متجاوزا بذلك نطاقه النوعي، والمحكمة لم تنتبه إلى ذلك مع العلم أن مهمة الإشهاد على صحة الإمضاءات أناطها المشرع بموظفين معينين، فالمشرع إذا كان قد سمح للموثق بمقتضى الفقرة الثانية من الفصل الأول من ظهير 4 ماي 1925 بكتابة المحررات العرفية، فقد أحاط ذلك ببعض الإجراءات أهمها أن تقدم الأطراف طلبا كتابيا وتصريحا بذلك إلى الموثق، وأن يقوم هذا الأخير باطلاعهم على مزايا وفوائد المحررات الرسمية، فأمام غياب هذه الإجراءات واكتفاء الموثق بتصحيح توقيع أحد الأشخاص على محرر عرفي تم بواسطة كاتب عمومي، يكون قد تجاوز نطاقه واختصاصه، ومارس مهمة تصحيح الإمضاءات التي هي من اختصاص رؤساء المجالس الجماعية الحضرية والقروية.[19] 

المبحث الثاني : حقوق والتزامات الموثق والرقابة على عمله ومسؤولياته

قسمنا هذا المبحث إلى مطلبين أساسيين خصصنا المطلب الأول للحديث عن الحقوق التي يتمتع بها الموثقون والواجبات المفروضة عليهم، أما في المطلب الثاني تناولنا مسؤولية الموثق والرقابة على أعماله.

المطلب الأول: حقوق والتزامات الموثق 

يتمتع الموثق العصري أثناء مزاولة مهامه القانونية وممارسة مسؤولياته التوثيقية بمجموعة من الحقوق المكفولة له قانونا (الفقرة الأولى) كما يلتزم أيضا أثناء ممارسة اختصاصه بواجبات والتزامات يلزمه إتيانها قبل بدء عمله وأخرى يلزمه الاضطلاع بها بعد مباشرة مهامه[20] (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: حقوق الموثق

نظم المشرع هذا الحق في المادتين 15 و16 من قانون 32.09 حيث نصت المادة 15 على مبدأ حق الأجرة والأتعاب وهومن أهم الحقوق التي يتمتع بها الموثق، ونظرا إلى أن التوثيق مهنة حرة فإن الموثقين يتقاضون أتعابهم أو أجورهم من المتعاقدين مباشرة، أي دون واسطة أحد أو مؤسسة أو صندوق. كما نصت المادة على أن مبالغ هذه الأتعاب وطريقة استيفائها تحدد مبلغها بموجب نص تنظيمي.

  ويلاحظ على هذه المادة أنها عبرت بالأتعاب، ولم تعبر بالأجرة، مع أن الحقيقة المستفادة من صيغة المادة نفسها إنها أجرة وليست أتعابا، لأن الشأن في الأتعاب أن تكون غير محددة المبالغ بالنص القانوني أو التنظيمي، وإنما تترك للأطراف تبعا للمجهودات المبذولة من أجل تحقيق الغاية من التعاقد.[21]

كما أن الغالب في الأتعاب أن تكون من أجل بذل عناية لا تحقيق غاية وتستعمل في العرف المهني لعمل غير محدد ولا معلوم في بدايته ولا نهايته.

بينما أن من مهام الموثق يتعين عليه قانونا وعملا تحقيق غاية محددة ومقصودة، وعليه انجاز كل الهدف المنشود من إشهاده وتوثيقه، وعمله ليس مجرد بذل عناية. فالغالب في الأجرة أن تكون محددة بمقتضى قانون أو نص تنظيمي أو بمقتضى العرف والعادة، ونادرا ما يترك ذلك لاتفاق الأطراف ولا سيما في المهن الشبيهة بمهنة التوثيق.

 كما أن الأجرة تستعمل لعمل محدد ومعلوم في بدايته ونهايته وبالتالي فالمادة عبرت بالأتعاب من حيث المبنى، لكنها أرادت الأجرة من حيث المعنى.

 وتجدر الإشارة إلى أن المشرع تشدد في هذا الحق ونص صراحة على الوقوع في المتابعة الزجرية أو التأديبية إذا تقاضى الموثق أكثر من أتعابه.

 فالمادة 16 نصت على أنه ليس من حق  الموثق أن يتقاضى في أتعابه أكثر مما هو محدد له في مبلغها بحسب النص التنظيمي أو أن يأخذ أكثر  مما أداه من مصاريف وصوائر عن المتعاقدين، وعليه في هذه الحالة أن يثبت بمستندات كتابية ما أداه عن الأطراف من مصاريف، فإن تقاضى أكثر مما يستحق يكون قد عرض نفسه للمساءلة تأديبيا  وزجريا حسب التكييف القانوني الذي سيعطى لذلك.[22]  

للموثق العصري الحق في التوقف عن العمل أو التغيب أو الانتقال إن اقتضت ظروفه ذلك بمقتضى النصوص القانونية الواردة في القانون  32.09

1 – حق الموثق في التغيب 

  منحت مقتضيات المادة 17 للموثق حق التغيب لمدة لا تزيد عن خمسة عشر يوما شريطة إشعار المجلس الجهوي للموثقين، وكذا الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف المعين بدائرتها.[23]  والموثق في هذه الحالة مخير بين أن يشير في إشعاره الى سبب تغيبه والمكان الذي سيكون فيه خلال هذه المدة أولا يبين شيئا من ذلك، لأن حق التغيب للمدة المذكورة حق عام يتمتع به كل موثق ولا يرتبط بحالة اضطرارية واستثنائية وأن مدة 15 يوما مدة قصيرة على كل حال، مع العلم أن الإشعار يجب أن يكون مكتوبا ومسجلا بكامل مراجعه لدى كتابة النيابة العامة بمحكمة الاستئناف المختصة.[24] 

وإذا اضطر الموثق التغيب أكثر من خمسة عشر يوما جاز له التقدم بطلب مكتوب إلى رئيس الأول لمحكمة الاستئناف المعين بدائرة نفوذها يلتمس فيه تعيين موثق للنيابة عنه في مكتبه، ويستحسن للمعني بالأمر اقتراح الموثق الذي يثق فيه وتطمئن إليه نفسه، وفي هذه الحالة يجب عليه أن يشير إلى المدة التي سيغيب خلالها وإلى السبب الذي جعله يغيب طيلتها مع المكان الذي سيكون فيه خلالها. ولعل السبب في تشدد النص على مدة التغيب المحددة فقط في 15 يوما، هو كون مهام الموثق مرتبطة بحقوق المتعاقدين التي لها علاقة بتسجيل العقود لدى المصالح الضريبية والمحافظة العقارية في آجالها القانونية ومواكبة كل تغيير قد يلحق العقارات التي ترد عليها هذه الحق      

2- حق الموثق في التوقف عن العمل                                                  

حسب المادة 18 أن الموثق إذا  انتابه عارض أو مرض التمس من الرئيس الأول اعتباره في حالة انقطاع مؤقت عن ممارسة المهنة، حيث يعين هذا الأخير من ينوب عنه في حالة الموافقة بعد أخد رأي المجلس الجهوي للموثقين والوكيل العام للملك.[25] 

والأفضل أن يكون الموثق النائب مقترحا من طرف الموثق المعني بالأمر إذا أمكن ذلك، مراعاة لأحكام المادة 19[26]وتفاديا لكل نزاع أو خصومة بين الموثق الأصيل والموثق النائب.

وتجدر الإشارة إلى أن الملتمس الذي يقدم للرئيس الأول يجب أن يكون مكتوبا ومسجلا بكتابة الضبط لدى محكمة الاستئناف المختصة، لأن المادة وإن لم تنص صراحة على ذلك فإن طبيعة مهنة التوثيق وطبيعة العلاقة بين الموثقين والمسؤولين القضائيين تقتضيان التعامل بالمكتوب والمدموغ لا بالشفوي والمسموع.[27] 

كما أعطت المادة 22 من قانون 32.09 الموثق حق إعفائه من مزاولة مهنة التوثيق، ونصت على أنه يحق للموثق أن يطلب إعفاءه من ممارسة مهامه بصفة عامة، سواء أبدى في ذلك سببا كأن يصبح عاجزا عن ممارسة مهامه، أولم يبد في ذلك أي سبب، مع أن الإعفاء من المهام غالبا ما يكون لأسباب معينة، ويجب في كل الأحوال أن يكون طلب الإعفاء واردا تحت إشراف السلم الإداري، بمعنى أن يرد تحت إشراف الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التي يعمل الموثق بدائرتها، وذلك لأسباب منها أن يتم التأكد من كون طلب الإعفاء صادرا من المعني بالأمر.[28]  

ويلاحظ أن قانون التوثيق لا ينص على حق الموثق في التقدم بطلب الاستقالة من ممارسة المهنة، ويبدو أنه اكتفى في ذلك بحق التقدم بطلب الإعفاء من مزاولة المهنة، وكان عليه أن يفعل لأن التقدم بطلب الإعفاء قد يختلف عن التقدم بطلب الاستقالة، من حيث الأسباب الداعية على ذلك ومن حيث الآثار المترتبة عن كل منهما.

كما نصت الفقرة الثانية على إمكانية إعفاء كل موثق أصابته عوارض مرضية تحول دون مزاولة مهنته ولولم يتقدم بطلب إعفائه، وهذا من أبرز الفروق بين الاستقالة والإعفاء، حيث أنه لا يجوز للإدارة أن تضع حدا لمهام موثق عن طريق الاستقالة إلا بناء على طلبه، بينما يسوغ لها ذلك عن طريق الإعفاء في حالة الإصابة بالمرض المذكور.   

وإذا أعفي الموثق بسبب الإصابة بالمرض فإنه يتعين إرجاعه إليها عند زوال سبب الإعفاء بناء على طلبه والتماسه الرجوع إلى مزاولة مهامه.

 وتجدر الإشارة أن الإعفاء من ممارسة المهنة يعتبر إجراء إداريا، وليس عقوبة من العقوبات التي يمكن أن تطال الموثق وفقا لمقتضيات القسم الرابع من القانون 32.09. وبطبيعة الحال فإن الموثق يعفى بقرار لرئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل بعد إبداء اللجنة الاستشارية المشار إليها في المادة 11 من هذا القانون رأيها في الإعفاء، ويتم إرجاعه إليها عند زوال سبب الإعفاء بنفس الطريقة.[29]  

3- حق الموثق في الانتقال     

نصت المادة 21 من قانون 32.09 على حق الموثق العصري في طلب الانتقال وتغيير مقر عمله، حيث يتم ذلك بقرار للوزير الأول بناء على اقتراح من وزير العدل بعد إبداء اللجنة المنصوص عليها في المادة 11[30] رأيها في الموضوع كما نصت المادة على أن للانتقال شروطا ومعايير ستحدد بنص تنظيمي.                                             

 وقد صدر المرسوم رقم 2.12.725، المتعلق “بنظام مباراة الانخراط في مهنة التوثيق وكيفية تنظيم وقضاء فترة التمرين ونظام الاختبارات ونظام الامتحان المهني” الذي نص في المادة 37 منه على أنه يشترط لقبول طلب الانتقال أن يكون الموثق قد مارس المهنة بصفة فعلية في مقر عمله المعين به، وأن تتوفر فيه المعايير المنصوص عليها في هذا المرسوم، وأن يتوفر مكتب شاغر أو محدث في المحل المراد الانتقال إليه، مع مراعاة المصلحة التوثيقية.

وفي المواد من 38 إلى 40 من هذا المرسوم نص على تقسيم المدن إلى أربع مجموعات واشترط الانتقال من مجموعة إلى أخرى أقدمية في مقر العمل حددها في سنة واحدة إلى خمس سنوات بحسب أهمية كل مجموعة، ما لم يتعلق الأمر بطلب الانتقال من مقر في  مجموعة أعلى إلى مقر في  مجموعة أدنى، فإنه لا تراعى فيه المدد المذكورة، وإذا فاقت طلبات الانتقال عدد الأماكن الشاغرة المطلوبة، يراعى في الترجيح بينها مجموع النقط بحسب نقطة عن كل سنة بالنسبة إلى الأقدمية في مقر العمل المراد الانتقال منه، وربع نقطة عن كل شهر بالنسبة إلى أقدمية الطلب، التي تحتسب من تاريخ تسجيله بمكتب الضبط المركزي للوزارة.[31]

تعتبر المشاركة بين الموثقين من المضامين الجديدة التي جاء بها قانون 32.09 في إطار إعادة هيكلة المهنة وتنظيمها وهوما تولى القسم الثالث تنظيمها انطلاقا من  المادة 59 إلى غاية المادة 64 حيث أنه بإمكان موثقين أو أكثر إبرام عقد مشاركة إذا كانوا معينين في  نفس الدائرة الترابية للمحكمة الاستئنافية وهو العقد الذي لا يصير نافذا إلا بعد المصادقة عليه من طرف وزير العدل بعد استشارة اللجنة المشار إليها في المادة 11،[32] فحسب ما جاء في المادة 59 من قانون 32.09 أن المشاركة بين الموثقين تنصب فقط على الوسائل الضرورية لمزاولة مهنتهم وكيفية إدارة وتدبير المكتب الموحد دون أن تكون شاملة للمسؤوليات والواجبات المنصوص عليها في  هذا القانون، ويمكن أن تكون مشاركتهم هذه في شكل شركة مدنية مهنية ولا يجوز أن تكون في شكل شركة تجارية. 

ويتعين أن تحرر المشاركة في عقد خاص يضع نموذجه المجلس الوطني للموثقين، ويمكن أن يكون في شكل عقد عرفي أو رسمي، ويجب أن تحترم فيه أحكام ومقتضيات هذا القانون، وينص فيه على الخصوص على ضمان الاستقلال المهني للموثق وتقيده بالسر المهني، وفقا للأحكام والمقتضيات الواردة في هذا القانون.

كما أوجب المشرع من خلال المادة 60 على أنه بعد إبرام عقد المشاركة بين الموثقين وفق النموذج الموضوع من طرف المجلس الوطني للموثقين، يجب أن تسلم نظائر منه لكل من وزارة العدل والمجلس الوطني للموثقين والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المعين بدائرتها الموثقون المتشاركون والوكيل العام للملك لديها.

 كما نصت المادة 62 من قانون 32.09 على أن كل موثق متشارك يظل مسؤولا مسؤولية شخصية عن العقود والمحررات التي ينجزها أو يتلقاها، بمعنى أن الموثق وإن تشارك مع موثق آخر أوأكثر فإن ممارسته للمهنة مع المتعاقدين تبقى ممارسة شخصية ومسؤوليته عن ذلك تبقى مسؤولية شخصية. فكل موثق متشارك مسؤول عن حفظ أصول العقود والوثائق التي بحوزته وعن مسك سجلاته وحفظها.[33]

الفقرة الثانية: واجبات الموثق والتزاماته

لقد وضع المشرع على عاتق الموثق جملة من الالتزامات والواجبات التي يتوجب عليه القيام بها على أحسن وجه، وإلا كان مقصرا في حق زبنائه مما يعرضه للمساءلة.

كما إن هذه الواجبات والالتزامات تنقسم إلى قسمين، قسم متعلق بالواجبات التي يلزم الموثق إتيانها أثناء مزاولة مهامه. والقسم الثاني يتعلق بالتزامات ملقاة على عاتق الموثق.

يتوجب على الموثق العصري أثناء مزاولة مهامه ومباشرة التلقي والإشهاد مراعاة الواجبات التي يفرضها القانون عليهم إتيانها نذكر منها:

  1. مراعاة حالات التنافي المنصوص عليها في الفصل[34] 41 من قانون 32.09.
  2. مسك الدفاتر والمستندات وملفات الدراسة والتسيير والمفاوضات والبطائق والنماذج والصيغ التي تشكل محور العمل التوثيقي طبقا للقانون، مع وجوب صياغة العقود وفق الضوابط المطلوبة وبالطريقة وباللغة المفترضة قانونا.
  3. تمويل صندوق ضمان الموثقين المشار إليه في المادة 94 من ق 32.09 المخصص لضمان أداء المبالغ المحكوم بها لفائدة الأطراف في حالة إعسار الموثق أو نائبه وعدم كفاية المبلغ المؤدى من قبل شركة التأمين للتعويض عن الضرر الذي ترتبت المسؤولية الشخصية والمالية عن الخطأ المدني الذي يمكن أن يرتكبه الموثق شخصيا أو بواسطة كاتبه ومستخدميه والمتمرنين لديه.
  4. مراعاة الموانع المنصوص عليها في المواد 30.33.34 من قانون 32.09.

بالنسبة للمادة 30 فتمنع على الموثق أن يتلقى عقدا في الحالتين التاليتين:

-إذا كانت له أو لزوجه أو لأصوله أو لفروعه مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة في العقد.

-إذا وجدت قرابة أو مصاهرة بينه أوبين زوجه أو لأصوله أو لفروعه مع أحد الأطراف إلى الدرجة بإدخال الغاية.

أما في ما يخص الفصل 33 أكد على أنه يمنع على الموثق:

-أن يتسلم أمولا يحتفظ بها مقابل فوائد

-أن يستعمل ولو مؤقتا مبالغ أو قيما توجد في عهدته بأي صفة كانت فيما لم تخصص له.

-أن يحتفظ بالمبالغ التي في عهدته لحساب الغير بأي صفة كانت، ويجب عليه وضعها فور تسلمها بصندوق الإيداع والتدبير.

وتنص المادة 34 على انه يمنع على كل موثق:

-أن يقبل التوقيع على الأوراق تتضمن التزامات أو اعترافات مع ترك بياض في متن الوثيقة ولا سيما في مكان اسم المستفيد الدائن أو المبلغ،

-أن يستعير لشؤونه الخاصة اسم الغير في العقود التي يتلقاها،

-أن يعرض نفسه ضامنا أو كفيلا بأي صفة كانت في القروض التي قد يطلبها منه إثباتها في العقد،

-أن يبرم عقودا تنصب على أموال يعلم أنها غير قابلة للتفويت، أو أن يفوتها يتوقف على اجراءات غير مستوفاة.

-أن يضمن العقد مقتضيات من شانها أن تخل بالنظام العام.

-أن يبرم عقودا لحساب موثق أوقف من عمله، أو أن يحل محله بلا أي صفة كانت، ماعدا إذا تم تعيينه بمقتضى المادة 20 من هذا القانون،

-أن يقوم بتضمين العقود تترتب عنها منفعة شخصية له أو لزوجه أو أقاربه أو أن يشترط فيها منفعة لصالح غيره،

-أن يلجأ إلى السمسرة لجلب الزبناء، أو أن يشترك مع الغير في اقتسام الأرباح والمستحقات التي يخولها القانون،

-أن يحتفظ بأصول العقود في غير مقر عمله ما لم يؤذن له استثناء بذلك من طرف الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المعين بدائرتها مع إبلاغ الوكيل العام للملك لديها ورئيس المجلس الجهوي.

وإزاء هذه الواجبات لا يسع الموثقين العصريين إلا الخضوع لبعض الالتزامات القانونية التي من شأن مخالفتهم لها التعرض للجزاء.[35]

يلتزم الموثق العصري أثناء مزاولة مهامه بنصح الأطراف وكتمان السر المهني، وبعض الالتزامات الأخرى سنذكرها.

من خلال المادة 37 من قانون 32.09 نستشف أن المشرع ألزم الموثق بإسداء النصح للأطراف وإرشادهم إلى المسطرة التي يجب عليهم إتباعها من أجل ضمان حقوقهم، كما يجب عليه أن يبين لهم ما يعلمه بخصوص موضوع عقودهم، وأن يوضح لهم الالتزامات التي عليهم أخدها ضمانا لحقوقهم[36]. كما ألزمه بإسداء النصح للأطراف معا فلا يحق له أن ينصح طرفا دون الأخر ولا أن يقوم بتغليب مصالح احدهما على الطرف الأخر في العقد.

وعليه فإن الموثق ملزم كذلك بكتمان السر المهني، كما أشارت إلى ذلك المادة 24 من قانون 32.09، وذلك حفاظا على أسرار المتعاقدين وأسرار كل الأطراف التي تتعامل مع الموثق بما فيها المؤسسات العمومية، وأسرار المهنة بصفة عامة، لأن عبارة (السر المهني) عبارة شاملة، وهذا الالتزام لا يخص الموثق فقط، بل يتعداه إلى الموثقين المتمرنين لديه وإلى أجرائه ومستخدميه، فكل هؤلاء ملزمون قانونا بالمحافظة على السر المهني، تحت طائلة المساءلة القانونية والتأديبية، والمحافظة على السر المهني تعني مما تعنيه عدم إعطاء أي معلومة لمن لا يهمه أمرها قانونا، سواء تم ذلك بواسطة كلام شفوي أو بتسليم مستندات مكتوبة أو وثائق خاصة أو نسخ ونظائر من أصول العقود أو بغير ذلك[37].

كما للموثق دورا في عملية التقييد بالسجل العقاري، وذلك من خلال ما نصت عليه المادة 47 من قانون 32.09: ((يجب على الموثق أن يقدم نسخا من المحررات والعقود بعد الإشهاد بمطابقتها للأصل من طرفه، لمكتب التسجيل المختص لاستيفاء إجراء التسجيل وأداء الواجب في الأجل المحدد قانونا وانجاز إجراءات الضرورية للتقييد في السجلات العقارية وغيرها لضمان فعاليتها، ويقوم بإجراءات النشر والتبليغ عند الاقتضاء.

ويمكن للأطراف إعفاء الموثق من إجراءات النشر والتبليغ، وذلك تحت مسؤوليتهم، ويشار إلى ذلك في صلب العقد أوفي وثيقة مستقلة ثابتة التاريخ يوقعها الطرف المعني.))

وتجدر الإشارة إلى أن الموثق ملزم كذلك بالتأكد من وضعية العقار، في مجال المعاملات العقارية، حيث يعتبر أي إخلال بهذا الالتزام تقصير منه يعرضه إلى المسؤولية.

كما انه لا يكفي الموثق مجرد الاطلاع على الوضعية القانونية للعقار وأخذ شهادة عقارية تثبت خلوه من الرهون والتحملات العقارية لان وضعية العقار تبقى قابلة للتغير من لحظة إلى أخرى، فيما بين الحصول على الشهادة العقارية وتحرير العقد وتوقيعه يمكن أن يقوم البائع برهن العقار، ولهذا فان الموثق ملزم بعدم تسليم الثمن للبائع إلا بعد القيام بتقييد عقد البيع بالرسم العقاري والحصول على شهادة تثبت الملكية.

المطلب الثاني: الرقابة على عمل الموثق العصري ومسؤوليته

تتخذ الرقابة على عمل الموثق العصري عدة أشكال، فهي إما رقابة ذاتية تضطلع بها الهيئات الوطنية والدولية المنظمة للمهنة، وإما رقابة قضائية يمارسها الوكيل العام للملك بالمحكمة الاستئنافية التي يوجد مكتب الموثق في دائرة نفوذها، وإما رقابة إدارية تباشرها أجهزة الدولة على عمل الموثق، وكل موثق تبث إخلاله بواجباته المهنية أو القانونية يتعرض للتأديب المنصوص عليه في الفصل 32 من ظهير 4 مايو1925 بعد سلوك وثبوت المسؤولية وبناء عليه ترتسم خطة البحث أمامنا على النحو التالى:

الفقرة الأولى: الرقابة على عمل الموثق العصري

  1. الرقابة الذاتية على عمل الموثق العصري                                                         

الواقع أن الرقابة الذاتية على الصعيد الوطني تمارسها كل من الهيئة الوطنية للموثقين والمجالس الجهوية للموثقين بوصفها الأجهزة التي تحتكر تمثيلية مهنة التوثيق العصري أمام الاغيار من الإفراد والإدارات والمؤسسات حيث تتمتع الأجهزة التمثيلة لمهنة التوثيق بنفوذ أدنى قوي وسط أعضائها سواء على الصعيد الوطني والجهوي، حيث تسهر على تحفيز الموثقين على مباشرة خدماتهم وفق القانون وما يوجبه حسن السلوك والمروءة والإخلاص والحقيقة أن الأجهزة الوطنية المنظمة لمهنة التوثيق العصري ونظيرتها الدولية لا تعدو سلطاتها للموثقين أن تكون سلطة رمزية معنوية صرفة تنحصر في إصدار النصح وتوجيه التوصيات غير ملزمة على غرار ما يوجد في أكاديمية أخلاق المهنة.[38]

يخضع الموثق العصري أثناء مزاولة نشاطه التوثيقي لرقابة قضائية روتينية، وإن لم تكن صارمة بالشكل الذي هي عليه مع العدول الموثقين حيث كان من الأجدر أن تكون أكثر تشديدا ما دام التلقي فيها انفراديا والإشهاد كذلك.                                                                        

  وقد خول المشرع في  ظهير 4 مايو1925 السلطة القضائية الاختصاص في مراقبة سير عمل بالمكاتب التوثيقية إلى جانب موظفي الوزارة. يقول الفصل 31 في فقرته الثانية بهذا الخصوص “يخضع الموثقون لمراقبة مزدوجة من طرف موظفي إدارة المالية وقضاة النيابة العامة في شأن محاسبتهم وفي الأحول والقيم المودعة لديهم أو التي يتولون أمر محاسبتها وفي صحة الرسوم التي يحررونها ولسائر أعمالهم”  ويتوجب على أعضاء النيابة العامة تفتيش صندوق الموثقين مرة واحدة على الأقل في السنة للاطلاع على حالة الأمانات المودعة لديهم والتأشير على السجلات النظامية مع بيان اليوم الذي أجرو فيه المراجعة، ويمكن للنيابة العامة تفويض هذا الاختصاص للقضاة  أو الموظفين من إدارة المالية  أو لموثق مزاول للوظيفة مقابل تعويضات تخصص له عن النقل والإقامة.

بعد جولة التفتيش السنوية هذه يوجه وكيل الملك تقريرا للوكيل  العام للملك يتضمن خلاصات البحث والمراجعة لكل موثق مشفوعا بآرائه في الموضوع مع التعليل والتسبيب.

وفي إطار قانون 32.09 حافظ المشرع على نفس مراقبة سير العمل بالمكاتب التوثيقية الذي كان معمولا به في الفصل 31 وذلك في القسم الرابع الذي عنونه بالمراقبة والتأديب والذي تضمن المواد من 65 إلى 71، إقرارا منه بأهمية الرقابة التي يمارسها القضاء على الموثقين أثناء  مزاولة مهامهم، غير أن الواقع العملي لمهنة التوثيق العصري ينبئ[39] .

 بغياب هذه المراقبة القضائية المسطرة أحكامها في القوانين ذات الصلة فتضخم الجسم القانوني وازدياد وتيرة إصدار النصوص القانونية وتوالي ارتفاع عدد الموثقين المنخرطين حديثا في المهنة، من جهة أخرى جعل الرقابة القضائية شكلية تنحصر في مراقبة تاريخ تسليم أموال وتاريخ تحويلها إلى صندوق إيداع  والتدبير وفي أحسن الأحوال لا تتجاوز مراقبة سجلات الأرشيف الموثقين ومدى انضباط الأجل  القانوني مما ساهم في حدوث انزلا قات خطيرة لبعض الموثقين على الصعيد الوطني، وبذلك يتضح أن التوثيق العصري يبقى دون رقابة فعلية وموضوعية من الجهة القضائية التي يجب أن تمكن من صلاحيات مراقبة الوثائق العصرية عند تلقيها إذا أريد فعلا لقطاع التوثيق أن يتطور في  اتجاه الضبط القانوني الفعلي.

 بالنسبة للرقابة الإدارية على عمل الموثق العصري إما أن تكون قبل تسلمه لمهامه وإما أن تكون بعد استئنافه لعمله فالموثق العصري يخضع للمراقبة الصارمة من قبل الدولة قبل تسلمه لمهامه الرسمية حيث لا يسمى للتوثيق إلا حسن السيرة والسلوك وليس للموثق إمكانية التنصيب دون موافقة السلطات العليا التي لها وحدها سلطة تعيين الموثق وتحديد مقر عمله،  بقرار رئيس الحكومة واقتراح من وزير العدل، وتلزمه قبل البدء في وظيفته بأداء اليمين أمام القضاء ووضع الشكل والتوقيع ونسخة من محضر اليمين لدى كتابة ضبط المحكمة المنتمي لها، وبعد انطلاق الموثق العصري في مهامه يخضع لقانون مهني ملزم وصارم يوجب عليه ممارسة مأموريته في إطار ترابي محدد لدقة متناهية من قبل الدولة وفي اختصاص نوعي مضبوط.  

الفقرة الثانية: مسؤولية الموثق العصري

المسؤولية القانونية هي الجزاء الذي يترتب على مخالفة القواعد القانونية التي يضعها المشرع لتنظيم سلوك الفرد ونشاطه داخل الجموع، بما فيها ممارسة الموثق العصري لمهنته، إذ يجب على هذا الأخير الاتسام بالوقار والاستقامة والنزاهة والشرف والأخلاق الحميدة، وتبصير الزبناء وحفظ كيان حقوقهم ومراكزهم القانونية، وهوما يفرض عليه في آخر المطاف أن يتحمل المسؤولية التأديبية والجنائية والمدنية لتصرفاته أثناء مزاولته مهامه.

  1. المسؤولية التأديبية للموثق العصري

يهدف النظام التأديبي إلى معاقبة السلوكات التي تسيء إلى القواعد المفروضة على الشخص باعتباره  ممارسا لمهنة معينة، والمسؤولية التأديبية للموثق العصري، إنما شرعت للحفاظ على الأمانة والثقة والشرف والنزاهة،  المفروض اتصاف مهنة التوثيق العصري بها حتى يستفيد المرتادون من خدماتها على أكمل وجه.

 والنصوص التشريعية هي المصدر الوحيد للمخالفات التأديبية، فإذا أخل الموثق العصري بواجباته المهنية وأصدر عقود غير قانونية أو أهمل أو أغفل إغفالات خطيرة  فإنه يتعرض للعقوبات التأديبية المنصوص عليها قانونا.

فيكفي ارتكابه الخطأ المهني كي تطبق في حقه العقوبات المقررة للمخالفات التأديبية بغض النظر عن حدوث ضرر للغير أم لا كما هو الحال بالنسبة للمسؤولية المدنية.

فالمشرع المغربي قد وضع هنا ما يشبه الجريمة الشكلية التي يستلزم لتوافرها وقوع ضرر، بل يتجلى أساسها في مخالفة ما يكون المشرع  قد فرضه من ضوابط يفترض معه وقوع الضرر فرضا لا يقبل إثبات العكس لذلك فالموثق العصري يسأل تأديبيا بناء على خطأه أيا كانت درجة هذا الخطأ جسيما أو يسيرا.[40]  

ويتبين أن العقوبات التأديبية التي ضمنها قانون 32.09 المتعلقة بمهنة التوثيق العصري لها درجة واحدة، عكس ما كان عليه الحال في ظهير 1925 والتي كانت على درجتين.

حيث جاء في المادة  75 من قانون 32.09 تحديد العقوبات التأديبية في: الإنذار، التوبيخ، الإيقاف عن ممارسة المهنة لمدة لا تزيد عن 12 شهراً كما يمكن أن تكون العقوبات التأديبية الثلاث مقرونة بعقوبات إضافية كانعدام الأهلية للترشح لعضوية المجلس الوطني والمجالس الجهوية للموثقين أو التصويت في الانتخابات المتعلقة بها وذلك لمدة لا تتجاوز 10 سنوات، في حين أن المادة 74 من نفس القانون أسندت اختصاص النظر في المتابعات التأديبية المثارة من  الوكيل العام للملك للجنة الاستشارية،[41]  على أن يتم الطعن في مقررات هذه اللجنة أمام القضاء الإداري وفق الإجراءات المنصوص عليها في القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية، وذلك طبقا للمادة 84 من قانون 32.09. [42] 

وقد ألزمت المادة 85 من قانون 32.09 الموثق الذي صدرت في حقه عقوبة الإيقاف بالتخلي عن ممارسة أي عمل من أعمال المهنة، كما يتعين على من صدرت في حقه عقوبة العزل أن يتخلى عن ممارسة أي عمل من أعمال المهنة وعن وصف نفسه بصفة الموثق.

كما ينبغي الإشارة إلى أن العقوبات التأديبية، التي يتعرض لها المتمرن بمهنة التوثيق والتي تنظمها المادة 72 من قانون 32.09 وذلك بالإنذار والتوبيخ، ويمكن أن تصل العقوبة التأديبية إلى وضع حد للتمرين، وذلك بموجب مقتضيات المواد 82 و83 و84 من نفس القانون، كما نصت المادة 26 من قانون 32.09 على أن كل موثق ملزم بالتأمين عن هذه المسؤولية، وأنه يعين عليه إبرام عقد التأمين قبل الشروع في ممارسة مهامه، أي بمجرد أدائه اليمين القانونية ووضع توقيعه بكتابة الضبط لدى محكمة الاستئناف المعين بدائرة نفوذها، كما نصت على أن الموثق ملزم بالإدلاء كل سنة-أي في بداية كل سنة- بما يفيد استمرار اكتتابه في عقد التأمين، وذلك تحت طائلة المتابعة التأديبية.[43]

المسؤولية الجنائية في معناها الأعم الكامل تعبير عن ثبوت الوضع الإجرامي للواقعة المادية التي يجرمها القانون في حق شخص معين متهم بها، بحيث يضاف هذا الوضع إلى حسابه في تحمل تبعاته ويصبح مستحقا للمؤاخذة عنه بالعقاب، والموثق العصري وبحكم مهامه في تحرير عقود الأطراف وتوقيعها قد يتعرض للمساءلة الجنائية نتيجة جرم يكون اقترفه أثناء ممارسة عمله، كتزوير وثائق أو توقيعات أو حقائق معينة في علاقته مع زبنائه، على أنه في مثل هذه الحالات وشبهها تشدد في حقه العقوبة شأنه في ذلك شأن باقي الموظفين والممارسين المهنيين المشمولين بالعبارة الواسعة للفصل 224 من القانون الجنائي الذي جاء فيه: “يعد موظفا عموميا، في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه، في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية، أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.

 وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها”.[44]  

 وحسب المادة 78 من قانون 32.09 فإنه إذا قرر الوكيل العام للملك تحريك المتابعة الجنائية ضد الموثق لأسباب مهنية فإنه يمكن للوكيل العام للملك وقفه مؤقتا عن مباشرة مهامه بعد استشارة اللجنة المنصوص عليها في المادة 11، على أن ينتهي مفعول هذا الإيقاف المؤقت بمجرد صدور حكم بالبراءة حائز لقوة الشيء المقضي به، أو بمرور شهر على تاريخ الإيقاف المؤقت دون أن يتم تحريك أي متابعة ضد الموثق وإذا  كانت النيابة العامة هي من يطلب بالجزاء في المسؤولية الجنائية باعتبارها ممثلة الحق العام فإن الأمر في المسؤولية المدنية على نقيض من ذلك تماما حيث يتولى المضرور بنفسه المطالبة بالجزاء تعويضا عن حقه المهدور.[45]  

وجاء في المادة 27 من قانون 32.09 : “يتحمل الموثق مسؤولية كل ما يضمنه في العقود والمحررات من تصريحات وبيانات يعلم مخالفتها للحقيقة أو كان بإمكانه معرفتها أو العلم بها.”    المسؤولية المنصوص عليها في هذه المادة مسؤولية شاملة، يمكن أن تكون مسؤولية زجرية أو تأديبية أو مدنية، لكن يستشف من مقتضياتها أنها خاصة بالمسؤولية الجنائية، على اعتبار أن ما يضمن في العقود من تصريحات وبيانات غير  مطابقة للحقيقة يشكل جريمة التزوير في محرر رسمي طبقا لأحكام ومقتضيات الفصول 351 إلى 356 من مجموعة القانون الجنائي، بل إن كلمات وعبارات هاته المادة تكاد تكون مأخوذة حرفيا من هذه الفصول. 

 وتفرض المادة على الموثق أن يكون على علم تام بأنواع التدليس والحيل والغلط والغبن والإكراه والمرض  وأن يكون باع في  معرفة النوايا والحركات وسكنات المتعاقدين، إضافة إلى معرفته بكل القوانين والإجراءات والمساطر، وأن يكون على قدر كبير من الفطنة والنباهة والذكاء وأن لا يتعامل مع المتعاقدين بحسن النية الذي يفترض دائما، لأنه يمكن أن يسأل عن كل شاردة أو شائبة مهما صغرت أو عظمت.[46]  

تترتب المسؤولية المدنية عن الإخلال بالالتزام القانوني ذي طبيعة مدنية ينتج عنه ضرر بالغير، وهي بخلاف المسؤولية الجنائية يكون جزاؤها في الغالب تعويضا نقديا، وليس هناك من الناحية القانونية الصرفة ما يمنع أن يكون هذا التعويض عن التنفيذ عيني بمفهوم الفصل 259 من ظهير الالتزامات والعقود .                                                

والمسؤولية المدنية إما أن تكون عقدية ترتبت عن خطأ عقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ من العقد، أو تقصيرية ناجمة عن خطا تقصيري ترتب عن الإخلال بالتزام واحد لا يتغير هو الالتزام بعدم الإضرار بالغير.

غير أن هذا التمييز التقليدي بين الخطأ  العقدي والتقصيري ربما صار غير ذي جدوى  كلما كنا إزاء علاقة ذات طابع خاص تجمع بين مهني قانوني يجسده الموثق العصري وبين زبون مكتبه، حيث يتوجب التحلي بالثقة والائتمان.

إن مسؤولية الموثق العصري المغربي تجد سندها بالأساس في القواعد العامة المسطرة في أحكام ظهير الالتزامات والعقود المغربي، وخاصة فصله السابع والسبعون[47]  الذي يوجب التعويض لكل متضرر من فعل غيره إذا كان هذا الغير هو المتسبب المباشر للضرر.[48]   

كما تنص المادة 28 من قانون 32.09 :”يسأل الموثق مدنيا إذا قضت المحكمة ببطلان عقد أنجزه بسبب خطئه المهني، ونتج عن هذا البطلان ضرر لأحد الأطراف.” هذه المسؤولية يمكن أن تنجم عن إخلال الموثق بالتزامه بالتأكد من عدم وجود ما يبطل العقد أو يجعله قابلا للإبطال، كما إذا تعلق الأمر بعقد أو تصرف أو اتفاق يكون محله منافيا للقانون والنظام العام، أو يكون البطلان ناتجا عن تدليس كان بإمكان الموثق أن يعلمه بسهولة، أو لاحظ الموثق من خلال مجلس العقد أن أحد المتعاقدين يريد التدليس على الطرف الأخر، أو أن أحد الأطراف في وضعية إكراه، لكنه لم يرشده ولم ينبهه وتمادى في  تلقي العقد وتحريره، وقد يعتبر الموثق في  هذه الحالة مشاركا ومتواطئا مع المدلس، والتدليس عيب قد يكون سببا لإبطال العقود والتصرفات لكونه يمس ركن الرضا الذي يعتبر عنصراً جوهريا في العقد. 

وعلى كل حال فإن المحكمة إذا ثبت لها ما ذكر وحكمت ببطلان أو بإبطال عقد أنجزه الموثق، وكان البطلان  بسبب خطأ مهني ارتكبه الموثق، ونتج عن ذلك إلحاق الضرر بالأطراف، فإنه من حق هؤلاء التقدم بدعوى في الموضوع أمام المحكمة المختصة في إطار المسؤولية المدنية للموثق، والمطالبة بتعويض مناسب عن ذلك.[49] 

خاتمة

برغم من أن هذا القانون جاء في قالب قانوني حديث، فإن مضمونه لا يرقى إلى تطلعات وانتظارات الموثقين، وكل الأطراف والشركاء مما لا يساهم في التنمية الشاملة أو يسمو بمهنة التوثيق إلى الأفضل، بحيث إن مجمل ما جاء فيه لا يشكل إصلاحا حقيقيا كالإصلاح الذي يتطلبه القضاء. وتأسيسا على ذلك يوصي بعض الحقوقيون بمجموعة من المقترحات التي يمكن أن تسد ثغرات هذا القانون وتجعل منه قانونا قائما بذاته منها على سبيل المثال:

وتجدر الإشارة إلى أن مهنة التوثيق العصري ليست من المهن السهلة، فالتشريع فيها يظل مشوب بالعوائق والإكراهات مما يصعب معه خلق قانون كفيل بحماية حقوق جميع الأطراف.


[1] – العلمي الحراق: ” الوثيق في شرح قانون التوثيق”  دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، طبيعة نونبر 2014،.ص3

[2] -د احمد أبو العلاء: مبادئ قانون التوثيق العصري،  طباعة الخليج العربي، الطبعة الثانية 1430-2009، ص6

[3]  الفصل 7 من الظهير الشريف المؤرخ في 10 شوال 1340 والموافق ل 4 ماي 1925 ” يشترط في كل مرشح لوظيفة موثق: أن يكون فرنسيا..”

[4]  انظر المادة 3 من قانون 32,09

[5]  عبد المجيد بوكير: ” التوثيق العصري المغربي” الطبعة الثانية، 2010، طبع ونشر وتوزيع مكتبة دار السلام ، ص 52 و53

[6]  محمد ابن محجوز “وسائل الاثبات في الفقه الاسلامي” طبعة 1995 ص 350.

[7]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق ص 79.

[8]  عبد الكريم كريش: “محاضرات أعدها لطلبة الإجازة في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي كلية العلوم القانونية ولاجتماعية” ص 3

 قانون رقم 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق [9]

[10]  المادتين 8 و9 من قانون 32.09

[11]  عبد المجيد بوكير،  مرجع سابق، ص 59

[12]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق ص 64

[13]  العلمي الحراق مرجع سابق ص 26،27

[14]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 45، 46، 47،48

[15]  المادتين 4 و5 من قانون 32.09

[16]  محمد الربيعي: ” الأحكام الخاصة بالموثقين والمحرر الصادر عنهم”، الطبعة الأولى، أكتوبر 2008، ص 64

[17]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق ص 86

[18]  العلمي الحراق: ” مرجع سابق”، ص 93

[19]  محمد الربيعي: مرجع سابق، ص 63

[20]  عبد المجيد بوكير:  مرجع سابق، ص 156

[21]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 49

[22]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 50

[23] مجلة القبس المغربية للدراسات القانونية والقضائية: “نظام التوثيق في المغرب في ضوء مستجدات القانون 32.09 والقانون 39.08 والقوانين ذات الصلة” العدد الخامس، يوليو2013، ص 19

[24]  العلمي الحراق : مرجع سابق، ص 51

[25]  مجلة القبس المغربية: مرجع سابق ص 19

[26]  المادة 19: “للموثق النائب الحق في الاستفادة من ثلث الأتعاب الواجبة عن العقود والمحررات التي أنجزها أو تلقاها، ما لم يقع الاتفاق على خلاف ذلك.”

[27]  العلمي الحراق، مرجع سابق، ص 54

[28]  العلمي الحراق، مرجع سابق، ص 60

[29]  العلمي الحراق، مرجع سابق ص 63

[30]  المادة 11: تتكون اللجنة المكلفة بإبداء الرأي في تعيين الموثقين ونقلهم وإعفائهم وإعادة تعيينهم والبت في المتابعات التأديبية للموثقين والمتمرنين من:

– وزير العدل بصفته رئيسا أومن يمثله؛

– الوزير المكلف بقطاع المالية أومن يمثله؛

– الأمين العام للحكومة أومن يمثله؛

– رئيس أول لمحكمة استئناف أو نائبه؛

– وكيل عام للملك لدى محكمة استئناف أو نائبه؛

– قاض بالإدارة المركزية لوزارة العدل من الدرجة الأولى على الأقل بصفته مقررا؛

يعين كل من الرئيس الأول والوكيل العام للملك ونائبيهما والقاضي بالإدارة المركزية من طرف وزير العدل .

– رئيس المجلس الوطني للموثقين أومن ينوب عنه.

– رئيسي مجلسين جهويين ينتدبان من طرف رئيس المجلس الوطني.

تحدد طريقة عمل اللجنة بنص تنظيمي.

[31]  العلمي الحراق : مرجع سابق، ص 59

[32]  عبد المجيد بوكير، مرجع سابق، ص 175 و176 

[33]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 143

[34] المادة 41: الفقرة الثانية: يجب تصحيح الأخطاء والاغفالات بواسطة إحالات تدون إما في الهامش أوفي أسفل الصفحة  الفقرة الثالثة: يجب التنصيص الصفحة الأخيرة على الكلمات والأرقام الملغاة وعدد الإحالات والإشارة إلى الحيز الفارغ من الكتاب مع بيان عدد الخطوط التي وضعت عليه …

[35] د.عبد المجيد بوكير.  مرجع سابق، ص 184

[36] -د.العلمي الحراق: مرجع سابق. ص 98

[37] -د.العلمي الحراق. مرجع سابق،ص65.

[38]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 194

[39]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 195

بلغ معدل المتابعات في حق الموثقين العصريين الذين يتورطون في القضايا والمخالفات 150 متايعة سنويا يتم تبرئة 99 في المهنة منهم، جريدة المساء المغربية عدد 871 من تاريخ 2005، ص 195

 عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 205 [40]  

[41]  أنظر المادة 11 من قانون 32.09

 [42] أنظر المادة 84 من قانون 32.09

[43]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 68

 عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 212 [44]

[45]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 213

[46]  العلمي الحراق/ مرجع سابق، ص 73

[47]  الفصل 77 من ق.ل.ع:  كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول وكل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر.

[48]  عبد المجيد بوكير: مرجع سابق، ص 216

[49]  العلمي الحراق: مرجع سابق، ص 75

مقالات ذات صلة :

Exit mobile version