التطور التاريخي للتوثيق بالمغرب
التطور التاريخي للتوثيق بالمغرب
مقدمة :
جبل الانسان على حب المال وحب التملك إلى درجة التقديس، وعليه نشأت بين أفراد المجتمع علاقات اجتماعية واقتصادية أدت في أغلب الأحيان إلى خلافات و نزاعات كثيرة، فكان من الضروري إيجاد قالب أو وسيلة تفرغ فيها إرادة الأطراف المتعاملة تكون وسيلة لفض النزاع أو تحول دون قيامه.
من هنا كانت للكتابة و التوثيق أهمية في حياة الأفراد والأمم وخاصة في ميدان المعاملات اليومية بمختلف أشكالها وأنواعها مدنية كانت أو غير ذلك التي تمتد بين الأفراد والجماعات والدول.
والحكمة من الحث على الكتابة بلغة القانون ترجع الى عدم الاطمئنان لمزاعم الأطراف وشهادة الشهود العرفية ، ذلك أن الانسان بطبيعته البشرية معرض للخطأ والنسيان ، وعدم الدقة في سرد الوقائع والمعاملات المبرمة بالإضافة إلى أن الناس عادة ما تعتريهم نوازع المحاباة او الانتقام..
والفقه والقانون يرصدان باستمرار هذا التطور والتغيير، على مستوى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ويحرصان على عدم وقوع هذا الاصطدام ، ومع كل هذا فقد يحدث أن يتعدى البعض على حقوق البعض الآخر ظلما وعدوانا بدون وجه حق، لهذا كان على من يدعي حقا أن يثبته، ومن بين الوسائل التي تثبت بها الحقوق الكتابة، التي اعتنى بها الفقهاء وأدى هذا الاهتمام إلى ظهور علم التوثيق ، وهو العلم الذي لعب دورا كبيرا في حفظ الحقوق وإثبات المعاملات، سواء كانت مالية تتعلق بالتجارة والكسب، مثل البيع والشراء، أو كانت قربة لله تعالى مثل الهبة والصدقة والوقف، أو تتعلق بالأسرة مثل الزواج والطلاق ونحوهما.
و التوثيق في اللغة يطلق على معان عدة، فتارة يأتي بمعنى العقد والإحكام، وتارة بمعنى التقوية والثبوت كما يأخذ معنى الشد والإحكام وقد يراد به الأخذ بالوثاقة والوثيقة، كما يراد به العهد والإيمان.
أما في المعنى الاصطلاحي، فقد عرف بعدة تعريفات لكنها لم تخرج في مجملها عن المعاني اللغوية، وهكذا يعرفه ابن فرحون: “هي صناعة جليلة وشريفة وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم، والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال ذلك، ولا يسلك هذه المسالك”.([1]) ويعرفه الونشريسي : “بأنه من أجل العلوم قدرا وأعلاها إنابة وخطرا، إذ بها تثبت الحقوق ويتميز الحر من المرقوق، ويوثق بها ، ولذا سميت معانيها وثاقا”. (2)
وللتوثيق فوائد كثيرة وجليلة تكمن في :
صيانة الأموال وحفظها من الضياع: وقد أمرنا الله تعالى بذلك في محكم كتابه قائلا ﴿ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما﴾(3) وهو ما يدعو إلى الالتزام بالتوثيق في المعاملات بواسطة الكتابة، حتى تتم المحافظة عليها، و كذا قطعا للمنازعة بين المتقاعدين حيث إذا وجدت وثيقة مكتوبة تكون أدعى لفض النزاع والخصام الذي يحدث بين الناس في معاملاتهم، وخصوصا إذا حاول أحد أطراف العقد أن ينكر الحق الذي عليه، فإنه لا يستطيع ذلك لعلمه بوجود الوثيقة .
إثبات الحقوق: إذ بواسطة التوثيق يستطيع الإنسان أن يثبت حقه أمام القضاء، إذا كانت الوثيقة مكتوبة بطريقة مستوفية للشروط اللازمة، عندئذ تكون أدعى للإثبات وأقوى للحجة وقرينة للمدعي في إثبات حقه، وبينة كافية للحصول عليه.
كذلك التحرز من العقود الفاسدة: فالمتعاقدان قد لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقود، فإن عقدا وثيقة فيما بينهما ولم يتجها إلى موثق مختص في إبرام العقود فقد يكون العقد مشتملا على ما يبطله، فيبقى عقدهما هذا قابلا للنقض في المستقبل. والمتأمل في منظومة التوثيق ببلادنا، يجد نفسه أمام ازدواجية قانونية، تتجلى في وجود نظامين اثنين: أحدهما تقليدي يستمد جذوره من أحكام الشريعة وقواعد الفقه المالكي، ونظام نشأ في فترة الحماية بذريعة تحديث النظم القانونية وهو يستهدف بالأساس زبناء فرنسيين أو بالأحرى رعايا أجانب خاضعين لاختصاص المحاكم الفرنسية٠ فكيف ظهر التوثيق بشقيه العدلي و العصري بالمغرب؟ وما هي أهم المحطات والمراحل التي مر منها قبل أن يصل إلينا في صياغته الحالية ؟
و لدراسة هذا الموضوع ارتأينا تقسيمه إلى مبحثين اثنين و ذلك وفق الشكل التالي : المبحث الاول : مراحل تطور التوثيق العدلي و المبحث الثاني : تطور التوثيق العصري.
المبحث الاول : مراحل تطور التوثيق العدلي
بما أن التوثيق العدلي في المغرب مر بمرحلتين أساسيتين فقد ارتأينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين :
المطلب الاول : تطور التوثيق قبل مرحلة التقنين
ظهر علم التوثيق في التشريع الإسلامي بنزول القرآن الكريم الذي كان سباقا إلى النص على مبدأ الإثبات ، ويعتبر كذلك الأساس في ظهور التوثيق ( الفقرة الاولى : التأصيل الاسلامي للتوثيق) والذي تطور و مر بمراحل (الفقرة الثاني :مراحل تطور علم التوثيق في العصور الاسلامية) .
الفقرة الاولى : التأصيل الاسلامي للتوثيق
إذا كان للإنسان من أمجاد يتغنى بها و يفخر بجلالها، فله أن يفخر بمهنة العدالة و صناعة التوثيق التي ظهرت بظهور بعثة خير البرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيرا و نذيرا و سراجا منيرا مؤيدة بالوحي الرباني.
حيث قال الحق سبحانه و تعالى مخاطبا سائر المؤمنين و المؤمنات بمشارق الأرض و مغاربها حاثا إياهم بصيغة الأمر على تطبيق الدستور الرباني الذي يحثهم على توثيق معاملاتهم صونا لحقوقهم من الضياع و التلف و قداسة لحماية أعراضهم و أنسابهم، قائلا: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا ياب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا ياب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فهو فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم( 4).
تعتبر هذه الآية هي أساس نظام التوثيق في الإسلام ، وفي شقه المعاملاتي خصوصاً ،حيث يأمر فيها سبحانه وتعالى عباده بتوثيق الديون كتابة، وهذه الآية المحكمة قال عنها الشيخ العلامة والفقيه الإسلامي أبو بكر ابن العربي “هذه الآيات من كتاب الله عز و جل هي دستور التوثيق في المعاملات بصورة عامة، وهي تتضمن القواعد التي بني عليها علم التوثيق فقد جمعت الأساليب الثلاثة في هذا ألا وهي : التوثيق بالكتابة ، والتوثيق بالإشهاد ، والتوثيق بالرهن، ولا يوجد طريق رابع للتوثيق الرضائي غير هذه الطرق فإذا تمت المعاملة بين الأفراد بالبيع والشراء أو الهبة أو الوقف أو الوصية أو غيرها من المعاملات بدون إتباع إحدى الطرق المذكورة فإنها غير موثوقة ، وإذا حصل جحود أو نكران في التصرف غير الموثق فإنه يمكن اللجوء للقضاء للحصول على حكم قضائي بإثبات الحق على وثيقة لإثبات الحق وهذا الحكم يكون بمثابة عملية توثيق “٠(5) كما أن هذه الآية تتناول الديون الآجلة والحقوق العاجلة، فالآجلة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾ (6).
والعاجلة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها﴾ (7) ،فأمر في الحقوق الآجلة بالكتابة(فاكتبوه) (8) والإشهاد في قوله: ﴿وأشهدوا شهيدين من رجالكم﴾ (9) وفي الحقوق العاجلة أمر بالإشهاد وحده ﴿وأشهدوا إذا تبايعتم﴾ (10)فالحزم في الديون الآجلة أن تكتب ويشهد عليها.
أما مشروعية التوثيق من السنة النبوية فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم عناية فائقة للكتابة، لأن إدارة شؤون الأمة وتسيير دواليب الحكم تتوقف عليها، وعنايته صلى الله عليه وسلم بالكتابة كوسيلة للتوثيق تجلت في توثيقه لعدة أمور منها: توثيق القرآن الكريم حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتابه فور نزول الآية بتوثيقها بالكتابة وتدوينها، روى البخاري عن البراء ابن عازب قال: ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ (11). قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أدع لي زيدا وليجيء باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة” ثم قال: ( اكتب لا يستوي القاعدون… الآية )(12) كما ثبتت عنايته صلى الله عليه وسلم بتوثيق السنة حيث حصل إجماع من طرف أهل العلم على إباحة الكتابة لتوثيق السنة، كما أننا نجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد حرص على التوثيق ووثق الكثير من الرسائل والمبايعات وغيرها من المعاملات، وقد حفظ لنا التاريخ أقدم كتاب عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورده الشيخ عبد الحي الكتاني في كتابه التراتيب الإدارية، وهذا نموذج لتلك الوثائق :
“بسم الله الرحمان الرحيم كتاب من محمد رسول الله لفتاه أسلم، إني أُعتقك لله عتقا مقبولا، الله أعتقك وله المن علي وعليك، فأنت حر لا سبيل لأحد عليك، إلا سبيل الإسلام وعصمة الإيمان، شهد بذلك أبو بكر وشهد عثمان وشهد علي وكتب معاوية بين أبى سفيان“(13).
كما ثبت عنه توثيقه صلى الله عليه والسلم في القطائع التي كان يقطعها للصحابة حيث روى أن الدارٍيين وفدوا عليه فسألوه أرضا، فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم: “بسم الله الرحمان الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري: أن له قرية حيرون وبيت عينون، قريتهما كلهما وسهلهما وجبلهما، وماءهما وحرثهما وأنباطهما وبقـرهما ولـعقبه من بعد لا يحاثه فيها أحد، ولا يلجها عليهم أحد بظلم فمن ظلم وأخذ منهم شيئا فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب علي“(14).
والقصد من هذا التوثيق، هو عدم منازعة الداريين في ملك أو منفعة هذه الأرض التي قطعها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك توثيقه صلى الله عليه وسلم للعهود والمعاهدات، فقد ورد أنه كتب عهد التولية لبعض الصحابة، كعمرو بن حزم حيث بعثه على نجران وأعطاه كتابا، والهدف من كتابة العهد هو إضفاء الصبغة الرسمية على التولية.
أما المعاهدات، فهدفها تحديد العلاقة بين الدولة وغيرها من الدول، وتترتب عليها حقوق وواجبات ملزمة لكل الأطراف المبرمة لها، وأبرز المعاهدات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية.
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه وثق عقد البيع الذي تم بينه وبين العراء بن خالد بن هوذة ونصه: “بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما اشترى العراء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا لا داء ولا غائلة ولا خبتة بيع المسلم للمسلم”. ويقول بن عباس رضي الله عنهما من ترك الإشهاد على البيع فهو عاص، وقال مجاهد لا تستجاب دعوة رجل باع ولم يشهد ولم يكتب (15) وحث على ذلك وأمر الصحابة رضوان الله عليهم، على توثيق وتسجيل معاملتهم وعقودهم وكذلك فعلوا، نذكر منها وثيقة لعمر بن الخطاب التي تصدق فيها بأرض له تدعى تمغ ومما جاء فيها: “هذا ما كتب به عمر بن الخطاب صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث، على الفقراء والمساكين وذوي القربى وفي سبيل الله، وابن السبيل ولا جناح على من وليها أن يوكل منها بالمعروف“(16).
أما في عهد التابعين فلم تختلف وثائق هذا العصر عن الفترتين السابقتين، لما بينهما من اتصال وارتباط مباشر، وقد أورد النسائي في سننه وثيقة في موضوع المزارعة جاء فيها: “هذا كتاب كتبه فلان بن فلان بن فلانة في صحة منه وجواز أمر لفلان ابن فلان أنك دفعت إلي جميع أرضك التي بموضع كذا في مدينة كذا مزارعة، وهي الأرض التي تعرف بكذا وتجمعها حدود أربعة يحيط بها كلها، وأحد تلك الحدود بأسره لزيق كذا والثاني والثالث والرابع، دفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب”(17). فمن خلال هذه الآيات والأحاديث، يتبين أن الشريعة الغراء اهتمت بالكتابة والتوثيق أزيد من خمسة عشر قرنا، غايتها المحافظة على حقوق الأفراد من كل جحود أو إنكار.
و عموما امتازت الوثائق من عصر النبوة إلى القرن الثالث الهجري بالإيجاز والخلو من الحشو، وبعيدة عن التطويل عارية عن التلفيف، لم يوت فيها بصيغة معينة، غير أن عددها كان قليلاً نظراً لضيق رقعة الإسلام في تلك الفترة وقلة البشر والمعاملات، كما أن التشريع الإسلامي كان في مبدئه غضا طريا، والناس منصفين لا يسلكون سبيل الشروغ والتنصل من أداء الحقوق، وكلهم يعرفون اللسان العربي المبين ومدلولات الألفاظ العربية، وبالتالي لم تكن الحالة داعية للتأنف في التلفيق والتوسيع في تمطيط الوثائق وتمديد فصولها٠
فالتطور في صياغة الوثائق ،و تمديدها و تلفيفها، سيعرف ميلاده مع النهضة التي عرفتها بلاد الأندلس و المغرب وانتشار المذهب المالكي و ما واكبها من ازدهار اقتصادي و اجتماعي و ثقافي فيها ثم ظهور التأليف و التدوين في مجال الوثائق، وهو ما سندرسه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية :مراحل تطور علم التوثيق في العصور الاسلامية
اذا كانت بلاد المشرق العربي تعتبر المهد الأول لنشأة التوثيق العدلي، وفيها ظهر ومنها انتشر باعتباره مهبط الوحي و نشأة الدولة الإسلامية الأولى، ومكان ولادة وتجمع أعظم فقهاء الشريعة ، فإن التوثيق العدلي عرف بداية نهضته وازدهاره في بلاد الأندلس والمغرب العربي على يد ثلة من العلماء الاجلاء ، وكان لهؤلاء الفضل الكبير في تطوره وأظهروا فيه أشكالا جديدة من الوثائق، حتى كاد أن يكون فن التوثيق وصناعة الوثائق من ابتكار الأندلسيين والمغاربة، فما كاد القرن الرابع الهجري أن يبدأ حتى صار فن التوثيق عملا رسميا من أعمال الدولة في الأندلس، ومنها انتقل إلى المغرب.
لقد اهتم المغاربة والأندلسيون بهذا العلم اهتماما كبيرا وألفوا فيه تآليف جليلة، حفظت لنا الأيام بعضها وضاع معظمها فيما ضاع من التراث ، وقد تفننوا في ذلك ، وبرعوا براعة فائقة ـ تأليفا و شرحا و تعليقا ـ و أكثروا من التأليف في هذا الفن، فجاءت مؤلفاتهم متعددة الأشكال مختلفة الأحجام ما بين مطول و مختصر ، وفيهم من أطال جدا فجاء مؤلفه في أسفار (18) كمحمد بن راشد البكري القفصي الذي ألف كتابه « الفائق من الأحكام والوثائق » في سبعة أسفار ، ومنهم من اختصر جدا كالشريف الغرناطي صاحب الوثائق الغرناطية حيت جاءت في ورقات معدودة لا تتعدى 14 ورقة، ويبن هذا و ذاك تواجد مؤلفات متوسطة الحجم وهي الاكثر .
كانت هذا الفن كما سبق الذكر في الأندلس، فما أن أقبل القرن الثالث الهجري حتى بدأت هذه الصناعة في الظهور والذيوع حيث ارتبط علم التوثيق بفقه القضاء ـ وما الوثائق إلا ثمرة الفقه ـ و نبغ في هذا الفن فقهاء أجلاء قدموا هذا العلم ، و أدخلوا عليه تغييرا جوهريا اقتضته عوامل كثرة المعاملات المدنية والتجارية، وبرزت إلى الميدان أشكال جديدة من الوثائق الفقهية، ولعل أقدم كتاب في هذا الفن هو كتاب محمد ابن سعيد القرطبي المعروف بابن الملون (19).
وطبيعي أن يزدهر هذا الفن و ينموا مع مرور الزمن، وما أن أقبل القرن الرابع حتى تكاثرت مؤلفات علماء الأندلس، فظهرت وثائق إبراهيم بن سليمان بن أبي زكرياء الأندلسي(20)
ووثائق محمد بن يحيى بن لبابة القرطبي الشهير بالبرجون (21). وكتاب محمد بن احمد بن عبد الله الشهير بابن العطار (22) ووثائق أحمد بن عبد الله ابن أبي زمنين الغرناطي (23) ووثائق أحمد بن سعيد الشهير بابن الهندي (24) .
و على الرغم من ظهور كثرة المؤلفات في هذا الفن في القرن الرابع، إلا أن القرن الخامس كان اجل عصور التوثيق وأكبرها إذ فيه ألفت الكتب القيمة التي يرجع إليها الفقهاء و القضاة وعليها اعتمد الموثقون ، وبرزت ظاهرة جديدة ، وهي شرح الوثائق السابقة على هذا العصر، وهكذا رأينا شرح بن العطار أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي الملقب بابن الفخار (25) . وكتاب الوثائق وعللها لمحمد بن أحمد اللخمي الباجي الاشبيلي (26) . ووثائق محمد ابن عبد الله بن مزين القرطبي (27)وكتاب المقنع في الوثائق لابن مغيث الطليطلي (28) و الوثائق المجموعة لعبد الله بن فتوح الأندلسي (29) ووثائق ابن فرج الأندلسي (30) ووثائق بن فتوح (31) و في القرن السادس ظهرت كتب أخرى جديدة في هذا الفن بظهور موثقين جدد، وهكذا ظهر كتاب النهاية و التمام في معرفة الوثائق و الأحكام لعلي بن عبد الله المتيطي (32) وكتاب المنهج اللائق في المدخل لعلم الوثائق لابن عياد (33)، وكان هذا القرن إيذانا بظهور موثقين مغاربة حيث اضطروا للتأليف في هذا الفن إنشاء وشرحا، وهكذا نرى من مؤلفي هذا القرن من مغاربة أبو الحسن علي بن محمد الصنهاجي الريفي الشهير بالجز يري (34).
وقد لا حظ باحث المغرب الأستاذ محمد المنوني أن الوثائق في هذا العصر كانت مزدهرة في المغرب (35) وممن ألف في أوائل المائة السابعة أحمد بن محمد بن خلف بن يحيى الهاشمي البلنسي الأندلسي المتوفى سنة 616 هـ.
وبرزت في أوائل القرن الثامن شخصية مغربية بارزة وهو قاضي فاس ومدرسها ومفتي المغرب أبو الحسن الصغير (36) غير أن هذه النهضة انطفأت جذورها في القرن السابع الهجري حيث قل التأليف في هذه المدة، وضعف الإنتاج، وعول علماء هذا القرن على مؤلفات سابقيهم (37)
وبعد هذا القرن نشط المغاربة في تدوين التوثيق حيث عرف القرن الثامن كتبا قيمة من إنتاج مغربي متطور مع ملاحظة ظاهرة التعقيد في نصوصها تدفعهم المنافسة في صياغة وثائقهم كل حسب فقهه ودرجة علمه، وقدرة استيعابه للمادة واطلاعه على أسرارها، فتضخمت الوثائق الفقهية، وتكاثر عددها أضعاف ما كان عند المتقدمين . ومن الموثقين المغاربة في هذا القرن الفشتالي (38) وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الاوسي المكناسي له شرح على وثائق الجزيري سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحدود، ونعد من موثقي هذا القرن ابن سلمون (39) صاحب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام .
وفي القرن التاسع الهجري، ظهر الإمام الوَنْشَرِيسِي (40) الذي ألف شرحا على وثائق الفشتالي طبع على الحجز، كما ألف المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعني اللائق في آداب الموثق وأحكام أو وثائق .
كما ألف أبو الحسن الزقاق (41) تحفة الحكام بمسائل الدعاوي والأحكام .
انصرم القرن التاسع واتى القرن العاشر ببعض التجديد في هذا الفن، حيث قام علماؤه بتجريد الوثائق من الأحكام والشرح والاقتصاد على موضوع الشهادة، وزعيم المجددين في هذا الإمام احمد بن الحسن بن عرضون (42 ) الذي ألف كتابه المسمى باللائق لمعلم الوثائق والذي يعتبره المختصون في هذا الفن من أحسن ما ألف في علم الوثائق …
ثم ظهر في القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر، مجموعة من الموثقين على راسهم عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، ومحمد بن أحمد بناني، الملقب بفرعون، وفي أوائل القرن الرابع عشر ألف القاضي عبد السلام بن محمد الهواري شرحا على الوثائق الفرعونية، بين فيه فقه كل وثيقة وأصلح فيها الأخطاء الفنية، غير أن أبرز شخصية في هذا القرن بلا منازع هو الشيخ أبو الشتاء الصنهاجي الحسيني المتوفي سنة 1945 م شارح الوثائق الفرعونية.
وتأتي بعد ذلك مرحلة التقنين التي تعتبر آخر مرحلة بالنسبة لتاريخ التوثيق بالمغرب، ففيها صدرت قوانين متعددة، كان الهدف منها هو ضبط خطة العدالة، هذه الخطة كانت امتدادا للتوثيق الأصيل المستمد من الفقه الإسلامي، في المقابل نجد ظهور قسم خاص من التوثيق خلفه الاستعمار يخضع لقانون عصري مقتبس من القانون الفرنسي.
المطلب الثاني : مرحلة تقنين التوثيق العدلي بالمغرب
سنحاول في هذا المطلب الوقوف عند مختلف المراحل التي مر بها التوثيق العدلي الحديث بالمغرب.
الفقرة الاولى : قراءة في ظهير 7 يوليوز 1914
إن اطوار مرحلة التنظيم بالنسبة للمغرب بدأت منذ صدور أول ظهير شريف ، بمثابة قانون بتاريخ 13 شعبان 1332 هـ الموافق 7 يوليوز 1914، الذي تطرق في بعض فصوله إلى تنظيم مهنة التوثيق العدلي، فهذا الظهير في الأصل كان متعلقا بتنظيم المحاكم الشرعية ، وتفويت الملكية العقارية في البلاد، غير أنه تطرق في بعض فصوله إلى تنظيم خطة التوثيق العدلي (43).
يعتبر ظهير 7 يوليوز 1914 أول قانون أتى على ذكر مهنة التوثيق وإن كان الظهير جاء لينظم القضاء الشرعي ونقل الملكية العقارية في المملكة، فقد نظم هذا الظهير ايضا في مجموعة من فصوله التوثيق الإسلامي وأول ما بدأ به، هو التأكد من أهلية العدول وكفاءتهم (44) .
كما خص التوثيق العدلي بمجموعة من المقتضيات :
ومن أبرز المقتضيات التي كانت واردة في هذا الشأن أنه أبقى للقاضي بمحضر علماء المدينة أو البادية الإذن للعدول لمزاولة الخطة بعد التحقق من كفاءتهم العلمية وعدالتهم الشرعية ..
وكذا عمل على تقسيم العدول إلى قسمين: قسم مخول لتلقي كل الشهادات العدلية، ومنهم من خصهم بتلقي أنواع الشهادات دون أخرى، كما ألزمهم بالحصول على إذن مسبق من القاضي ما عدا التلقي من شخص مشرف على الموت . (45)
كما أنه لم يشر إلى ما سيعرف فيما بعد بكناش الجيب، ثم بمذكرة الحفظ لتلقي الشهادة بها أولا، بل كانت الشهادة تسمع وتحرر مباشرة في رسمها، ثم تؤدى أمام القاضي للخطاب عليها بعد تضمينها في كناش المحكمة المحدث بموجب هذا الظهير، وغالبا ما كانت الشهادة تبقى بدون تضمين في هذا الكناش، وأحيانا بدون خطاب القاضي الذي أصبح لازما ومفروضا، كما منع على العدول أن يحرروا رسم الملكية أو استمرارها إلا بعد الحصول على شهادة إدارية تثبت أن الأرض ليست جماعية.
كان هذا باختصار اهم ما جاء به ظهير 1914 ، الشيء الذي استوجب ضرورة اصدار قانون جديد ينظم مهنة العدول و مؤسسة التوثيق .
الفقرة الثانية : قراءة في ظهير 1938 وما بعده
اولا : ظهير 1938.
اذا كان ظهير 7 يوليوز 1914 لم يتناول مهنة التوثيق العدلي الا عرضا كما سبق الذكر فإن ظهير 23 يونيو 1938 جعل تنظيم خطة العدالة غرضا اساسيا ،فهو يعد بمثابة القانون الاساسي الذي ينظم خطة العدالة بالمغرب ، فقد صدر اساسا لتنظيم مهنة العدول وتمهيدا لتحديث و تطوير مؤسسة التوثيق .
فماهي اهم المقتضيات التي جاء بها ظهير 1938 ؟
الظهير الشريف المؤرخ في 24 ربيع الثاني عام 1357 الموافق 23 يونيو 1938 ، جاء بمجموعة من التغييرات الجديدة نذكر من اهمها :
مساواته بين الكفاءة العلمية التي كانت سائدة، وبين كفاءة الشهادة العلمية في الترشيح لخطة العدالة، واشتراطه في المرشح للخطة أن يكون بالغا 25 سنة من العمر.
تصريحه بأجور العدول والنسبة التي يستحقون منها، ومنعهم من تقاضي أي مرتب أخر، وتنصيصه على العقوبات الزجرية التي يتعرض لها العدل المخالف (التوبيخ – التوقيف عن العمل مؤقتا لمدة لا تتجاوز عامين – العزل) وكانت هذه الصلاحية من اختصاص وزارة العدل أما الإنذار فبقي الاختصاص للقاضي.
ايضا ، التنصيص على حالات التنافي بالنسبة لمهنة التوثيق، ومنع العدول من التغيب إلا برخصة من القاضي على أن لا تتعدى مدة التغيب شهرين في السنة مع الإشارة إلى الاستثناءات ذات الصلة بموضوع التغيب.
تفعيل العمل بكناش تسجيل إمضاءات العدول وعلاماتهم مع بيان تاريخ بدء العمل في مهامه ، وتاريخ تخليه عنها.
إلا أن هذا الظهير لم يتعرض في فصوله إلى كناش الجيب الذي تم إحداثه بمقتضى منشور وزاري بتاريخ 4 فبراير 1936، الذي الغي وعوض بمنشور 24 يونيو 1943 والذي أصبح يفرض على كل عدل مسك كناش الجيب لحصر جميع ما يتلقاه من الشهادات، أو ما يمليه من حفظه في كل يوم على حدة (46)
بعد ظهير 1938 ، تتالت بعد ذلك الظهائر التي تنظم و تقنن خطة العدالة .
ثانيا: الظهير الصادر بتاريخ 7 فبراير 1944
صدر ظهير 7 فبراير 1944 المتعلق بتنظيم المحاكم الشرعية في المملكة، بعد إلغاء ظهير 7 يوليوز 1914، وأول ما نص عليه هذا الظهير هو ضرورة مسك كل عدل لكناش الجيب يدون فيه العناصر الأساسية للاتفاق.(47) ، و يقيد فيه وجوبا العدلان المتلقيان لها، كما أحدث كناشين للتحصين ، الأول تضمن فيه ملخص الشهادات المتعلقة بالعقار، والثاني لنسخ مضمن الشهادات المختلفة.
حصر كنانيش التضمين في ثلاثة: كناش الأملاك العقارية، وكناش المختلفة، وكناش التركات والوصايا والتقديم، وتحفظ بالمحكمة.
التنصيص على مسطرة للتعريف بشكل العدول الجديد، وإلزام القاضي بمراقبة الرسوم العدلية والتأكد من كونها حررت طبقا للضوابط التوثيقية وضمنت بكناش التضمين،
وأوجب أن ينص بهامش الرسوم ونسخها على مراجع تضمينها بالكناش، وحتم على القاضي التحقق من كون الراغب في إقامة ملكية – تفويت عقار – أن يتوفر على المستندات اللازمة لأصل الملك ، قبل أن يأذن له في إقامتها إلا إذا اختار المتعاقدان الاقتصار على الإشهاد عليهما من غير الاطلاع على رسوم الملك، فإن على القاضي أن يأذن للعدلين بتلقي الشهادة وتفويت العقار.
بعد ذلك قام المشرع مؤخرا بإعادة تنظيم خطة العدالة، وضبطها وفقا للظروف الاجتماعية والاقتصادية، فأصدر ظهيرا شريفا بتاريخ 6 ماي 1982 ينظم كيفية تلقى الشهادة، وتحريرها، ومرسوما تطبيقيا لهذا الظهير بتاريخ 18 أبريل 1983 تناول فيه طريقة تعيين العدول ومراقبة الخطة، وحفظ الشهادات وتحريرها وتحديد الأجور، وهكذا نص الفصل الأول من ظهير 6 ماي 1982 على اعتبار خطة العدالة مهنة حرة (48) ثم صدرت مناشير عديدة ودوريات عن وزارة العدل، الهدف منها توضيح أو تتميم ما جاء في تلك الظهائر.
وهذه نماذج منـها: منشور عدد 11/ 60 بتاريخ 26/4/ 1960 حول زواج وطلاق الجنود والضباط، ومنشور عدد 12/60 بتاريخ 24/4/1960 حول نكاح المغاربة للأجانب، كذلك منشور عدد 21/64 بتاريخ 29/12/1964 حول تحرير الرسوم بخط واضح وأسلوب سهل، كما صدرت رسالة دورية رقم 24123/2 بتاريخ 2 يوليوز 1982 حول عقد أنكحة الجنود، وأخرى برقم 76621/2 بتاريخ 25 دجنبر 1986 حول عدم إلزام العدول بطبع الشهادات على الآلة الكاتبة، وثالثة بعدد 18693/2 بتاريخ 25 ماي 1987 حول عدم إطلاق العدول على أنفسهم صفة موثق.
ثالثا : قانون 16.03 المعمول به حاليا
قانون 16.03 هو القانون المعدل والمغير لقانون 81/11 المتعلق بخطة العدالة والجاري به العمل إلى اليوم الصادر بالجريدة الرسمية بتاريخ 2 مارس 2006 تحت عدد 5400 والذي دخل حيز التنفيذ بتاريخ 3 يوليوز2006. وقد جاء هذا القانون بمجموعة من المستجدات التي يمكن إجمالها في النقاط التالية :
على مستوى ولوج المهنة :رفع مدة التمرين من 6 أشهر إلى سنة، وفتح المهنة لحملة الدكتوراه بدون مباراة.
وعلى مستوى الاختصاص المكاني :فقد تم توسيعه إلى دائرة محكمة الاستئناف كقاعدة عامة.
أما على مستوى ممارسة المهنة : نص القانون الجديد على وجوب اتخاذ نظام الحفظ بالمكاتب العدلية في ملف خاص لكل شهادة، يضم المستندات الإدارية اللازم حفظها
وكذا مسؤولية العدل عن الرسوم التي أنجزها ولم يحزها أصحابها في خمس سنوات من تاريخ الخطاب عليها بسجلات التضمين، وعن المستندات الإدارية المعتمدة في الشهادات لنفس المدة من تاريخ التلقي.
أما على مستوى تأطير المهنة: فقد تم إحداث هيئة وطنية للعدول، ومجالس جهوية على صعيد دوائر محاكم الاستئناف، أسندت إليها اختصاصات إبداء الرأي في الشكاوى الموجهة ضد العدول ورفع تقارير بشأنها إلى الوكلاء العامين للملك؛ والحفاظ على تقاليد وأعراف وأخلاقيات المهنة، والعمل الاجتماعي، وتمثيل المهنة أمام الإدارة٠
هكذا نكون قد أعطينا نظرة موجزة عن تطور التوثيق العدلي والتشريعات التي نظمته، وننتقل للحديث عن القسم الثاني من أقسام التوثيق في بلادنا، وهو التوثيق العصري.
المبحث الثاني : تطور التوثيق العصري
لما كان التوثيق العصري في المغرب مصدره القانون الفرنسي كان من الضروري علينا ان نقدم نبذة عن قانون التوثيق الفرنسي ” المطلب الاول ” ثم نخصص المطلب الثاني لتناول مؤسسة التوثيق العصري بالمغرب .
المطلب الاول : نبذة عن قانون التوثيق الفرنسي
إن مؤسسة التوثيق في فرنسا موغلة في القدم، يعود أصلها إلى مئات السنين، بحيث نجدها قد تأثرت بالحضارات العريقة كالرومان والبابليين والبزنطيين…وغيرها من الحضارات القديمة.
ولذلك في هذا المطلب سنحاول مقاربة التوثيق الفرنسي من حيث جذورُه التاريخية والتي تعود للحضارة الرومانية كأصل، على ان نخصص الفقرة الثانية للحديث عن مضامين ومرجعية قانون 25 فانتوز (1803م).(49)
الفقرة الأولى : الجذور الرومانية للتوثيق العصري (التوثيق الفرنسي)
لقد عرفت الحضارة الرومانية ظاهرة توثيق المعاملات بين الأفراد منذ نشأتها، وتميزت بمرحلتين أساسيتين :
أولا : مرحلة الظهور والتطور
لقد عرفت الحضارات القديمة ظاهرة توثيق التعاملات بين الأفراد سعيا وراء ظبطها وقطع مادة النزاع والخصام فيها، حتى أصبحت الكتابة سيدة وسائل الإثبات (50) وهكذا نجد نُظُم التوثيق سائدة في حضارات مصر القديمة وفارس واليونان وعند الرومان وما تلاهم من الحضارات الإنسانية الكبرى.
فقرطاج مثلا عرفت مؤسسة التوثيق؛ بدليل الرسالة التي بعثها حاكمها (بوليبيو polibio) والمتعلقة بالمعاهدة الموقعة بين روما سنة 509 قبل الميلاد والتي جاء فيها : ” ان العمليات التجارية داخل الاراضي القرطاجية لا يمكن أن تتم دون تدخل الكاتب العمومي” (51). وكانت العقود التي يحررها الكتاب العموميون بالإمبراطورية الرومانية تحمل طابع شاهدين اثنين وتوقيعهما. وكانت مثل هذه العقود تتمتع بقوة ثبوتية نسبية، ولاضفاء طابع الرسمية عليها كان لا بد من تسجيلها في سجل خاص مُعَدّ لذلك من طرف كاتب القاضي.
وبهذا أصبح دور الموثق/الكاتب العمومي يتناول تحرير الاتفاقات والعقود وفق إرادة الأطراف في شكل وثائق مع إحالتها على القاضي للتوقيع عليها وإكسابها طابع الرسمية والقوة الثبوتية (52)
ثانيا : مرحلة التبلور والازدهار
في عز ازدهار الحضارة الرومانية كان للمغرب المعروف يومئذ بموريطانيا الطنجية علاقات تجارية مع فينيسيا (لبنان حاليا) باب الحضارة الشرقية آنذاك ومع قرطاجنة قلب الشمال الافريقي.
الأمر الذي ساهم في تطوير توثيق امازيغي/ مغربي تمتزج فيه أصول الحضارات الفاعلة يومئذ من رومانية وفينيقية وقرطاجية ووندالية وأمازيغية وفينيسية وغيرها(53).
وبعد مرحلة من التطور تبلور مفهوم التوثيق الحديث عبر توسيع اختصاصات الموثقين وربط عملهم بالقضاء الذي لم يعد قضاء مختصرا دوره في فض النزاعات بل صار مهتما بإضفاء طابع الرسمية على المواثيق والعقود والمعاملات (54)
وقد أدى هذا التزاوج بين مهمة التوثيق ومهمة القضاء طيلة العصور الوسيطة في الشمال الافريقي وأروبا، خاصة في فرنسا وايطاليا واسبانيا وباقي دول جنوب أوربا التي كانت تعتمد في أنظمتها على القانون الروماني، خلاف دول الشمال التي اعتدت قوانينها بالأعراف المحلية.
وبهذا التزاوج أصبح التوثيق من اختصاص شخص واحد هو الموثق الذي يحتكر العقود وتحريرها ثم التوقيع عليها دونما مشاركة من رجال القضاء أو كتاب الضبط أو غيرهم؛ ومعنى هذا ان الموثق أصبح حائزا للصفة التي تؤهله للتأشير على العقود والرسوم وإضفاء طابع الرسمية عليها في استقلال تام عن مرافق الدولة الأخرى الإدارية والقضائية.
وبهذه الاستقلالية ترسخت مهنة التوثيق وانتظمت مسالكها وشعبها وأصبح ولوج المهنة مقننا ومراقبا من القضاء.
وأصبح الموثق محكوما بعدة قواعد إجرائية أهمها؛ تسجيل العقود في سجل يسمى بروتوكول ثم قراءتها على الأطراف المتعاقدة مع ضرورة توقيعها من طرفهم على أن يحتفظ بأصول العقود داخل مكاتب التوثيق مع حرص القضاء الشديد على ضرورة ممارسة الموثقين مهامهم في حدود دائرة اختصاصاتهم المحددة قانونا (55).
وبانبثاق الثورة الفرنسية سنة 1789م دخل التوثيق منعطفا تاريخيا وجديدا وعلى الخصوص في فرنسا، حيث حاول منظرو الثورة الفرنسية إلغاء هذه المهنة عن طريق تعويضها بموظفين عموميين رغم الحاجة الماسة إليها في ظل مجتمع برجوازي يقوم على التعاقد.
والواقع أن محاولة التأميم هاته والتي أقدمت عليها السلطات الفرنسية في ظل ثورة 1789م قد فشلت بعد أن اضطربت البنيات الاجتماعية واختل الاستقرار واشتدت الحاجة الى تثبيت الدعائم الجديدة للثورة والمتمثلة في :
ـ الملكية الفردية حيث ظهر قانون الملكية كضرورة اجتماعية لحماية الاراضي الفلاحية و الحفاظ عليها كونها أساس عناصر الإنتاج.
ـ والحريات المدنية التي شكلت عناوين الثورة وشعارها العام ..
ـ الأسرة بصفتها الخلية البنيوية والنواة الأولى للمجتمع وأساس كل استقراره.
وفي هذا الخضم العام ظهرت أهمية الموثق والحاجة إليه في ضبط الأوضاع الجديدة المترتبة عن الثورة.. وبمجيء عهد نابليون بونابرت عرفت حركة التقنين انتعاشا مهما، تكلّل سنة 1803 بظهور نظام التوثيق الذي يُعرف بقانون 25 فانتوز للسنة الحادية عشرة من التقويم الجمهوري لفرنسا والذي يعد بحق المصدر المباشر لظهير 4 ماي 1925م .فما هي مضامين هذا القانون؟
الفقرة الثانية : قانون 25 شهر فانتوز(1803م)
أولا: مرجعية هذا القانون
يعتبر قانون فانتوز الصادر في فرنسا سنة 1803م أصلا لظهير 4 ماي 1925 المنظم لشؤون ومحرري الوثائق الفرنسيين بالمغرب أو ما أصبح يعرف ” بالتوثيق العصري في المغرب ” ، والذي ظلت بعض مقتضياته تحيل على هذا القانون حتى بعد الاستقلال. بل حتى دخول القانون 32.09 حيز التنفيذ الذي نسخ ظهير 4 ماي الصادر سنة 1925..فقد جاء في الفصل العاشر من ظهير 4 ماي 1925 المنسوخ بقانون 32.09 (56) .”…أو أنه حصل على شهادة في الامتحان المنصوص عليه في الفصل 41 من القانون الفرنسي الصادر في 25 شهر فنطوز السنة الحادية عشرة من التقويم السنوي الجمهوري…”. كما جاء في المادة 20: ” تطبق مقتضيات الفصول من 8 الى 30 من القانون الفرنسي الصادر في 25 من الشهر السادس من السنة 11 من التقويم السنوي الجمهوري..”.
وبهذا أصبح قانون فانتوز ـ قبل دخول قانون 09.32 حيز التنفيذ ـ إضافة الى المقتضيات المتعلقة بالوثائق الرسمية والعقود المنصوص عليها في القانون المدني الفرنسي ميثاق التوثيق في فرنسا ومنه في المغرب، وأصبحت لمهنة التوثيق صلاحيات واختصاصات واسعة تهم مساعدة الناس على تطبيق القانون أثناء ممارسة حقوقهم الاعتيادية.
ثانيا : أهم مضامين هذا القانون (فانتوز)
لقد مكن قانون فناتوز السالف الذكر، والسيء الذكر أيضا ـ الذي دخل للمغرب من خلال ظهير 4 ماي 1925م المنظم لشؤون محرري الوثائق الفرنسيين أو ما صار يعرف بالتوثيق العصري بعد صدور قانون التعريب والتوحيد والمغربة لسنة 1965م ـ لقد مكن هذا القانون الموثقين من صلاحيات واختصاصات كبيرة كممارسة قانونية تضاهي المحاماة ،بل وتتجاوز المحامين الذين غالبا ما يكون مجال تدخلهم كممارسين قانونيين فيما يخص الجانب النزاعي في علاقات الأفراد …والموثقين حسب مذكرة فناتوز هم: { بالإضافة الى الموظفين الذين عهد اليهم بأمر المصالحة بين الأطراف وحل المنازعات القائمة بينهم، هناك مجموعة أخرى من هؤلاء الموظفين اقتضت ضرورة الأمن والسكينة العامين تدخلهم كمستشارين للأطراف. وكمحايدين من أجل توثيق إرادتهم وإرشادهم وتوضيح كل الالتزامات الذين هم بصدد التعاقد من أجلها وكذا محتواها ومداها بكل وضوح، وإضفاء طابع الرسمية عليها وإعطائها قوة الأحكام النهائية القابلة للتنفيذ، وكذا الحفاظ عليها بكل أمانة من أجل تلافي وقوع النزاع بين الأطراف حسني النية، ومنع الطرف سيء النية من الالتجاء إلى منازعة تعسفية.
هؤلاء المستشارين الذين لا مصلحة لهم في الأمر، هؤلاء المحررون المحايدون يعتبرون بمثابة قضاة إدرايون والذين يلزمون دون رجعة الأطراف المتعاقدة هم الموثقون وهذه المؤسسة هي التوثيق}.(57)
وبهذا يعتبر عقد الحماية الذي بموجبه دخل المستعمر بداية التحول في التوثيق المغربي الأصيل ذو المرجعية الاسلامية في اتجاه ظهور معالم نظام توثيق وضعي مستورد.
والذي أصبح يحمل اسم التوثيق العصري ابتداء من خامس يناير 1965م تاريخ صدور قانون التوحيد والتعريب والمغربة للقضاء. والغريب أن هذا القانون ظل معمولا به قرابة قرن من الزمن حتى مجيء قانون 32.09 الذي نسخ ظهير 4 ماي 1925 ، والذي كان نسخة طبق الأصل عن قانون 25 فنطوز الفرنسي الذي يتعارض مع الثوابت الوطنية(58).
اذن ما هي ظروف دخول هذا القانون الغريب للمغرب؟ وما هي أبرز مضامين قانون 32.09 ؟
المطلب الثاني : مؤسسة التوثيق العصري في المغرب
يعتبر قانون التوثيق العصري من القوانين التي جاء بها المستعمر لحماية مصالحه ووجوده إنْ على مستوى المصالح العقارية، أو على المستوى التجاري، الأمر الذي يؤكد على الجانب السياسي للاستعمار إضافة إلى جانبه الاقتصادي والقانون التشريعي (59).
ويعتبر ظهير 4 ماي 1925 هو المرجع القانوني لهذه المؤسسة التي أدخلها المستعمر لحماية مصالحه الخاصة. وقد بقيت هذه المؤسسة فارضة وجودها حتى بعيد استقلال المغرب، بل ظل نفس الظهير ينظمها رغم ما فيه من التناقضات مع الثوابت الوطنية الى حين مجيء قانون 09.32 الذي نسخ ذلك الظهير الذي عمر قرابة قرن من الزمن.
وللوقوف عند ذلك الظهير وهذا القانون سنعالج في الفقرة الاولى من هذا المطلب ظروف ومضامين صدور ظهير 4 ماي 1925. على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث عن مؤسسة التوثيق العصري في ثوبها الجديد انطلاقا من قانون 09.32 الحديث العهد.
الفقرة الأولى :مؤسسة التوثيق العصري(الفرنسي) من خلال ظهير 4 ماي 1925
في هذه الفقرة سنركز حديثنا في نقطتين أساسيتين :
ـ ظروف صدور هذا القانون .
ـ وأهم المضامين التي جاء بها.
أولا : ظروف صدور قانون التوثيق لسنة 1925م
يُعتبر التوثيق العصري من القوانين التي أدخلها المستعمر الفرنسي في حقبة استعماره للمغرب لحماية مصالحه ونفوذه ووجوده سواء كانت مصالح عقارية حيث يختص الموثق بالإشهاد في بيع العقار المحفظ والذي في طور التحفيظ دون العقار غير المحفظ طبقا للفصل الخامس من الظهير، أو كانت مصالح تجارية أو غيرها.. فقد جاء صدور ظهير التوثيق الفرنسي هذا لسنة 1925م عقب صدور ظهير قانون الالتزامات والعقود والقانون التجاري وباقي الترسانة القانونية التي عمل المستعمر على تدوينها وإخراجها في وقت يسير من دخوله، الأمر الذي يفسر توالي الإحالات على القانون الفرنسي دونما أدنى التفاتة لعقد التوثيق الشرعي الاسلامي الذي عُرِف المغرب بالريادة فيه عبر التاريخ (60).
وقد لقي ظهير التوثيق الفرنسي بالمغرب معارضة شديدة من العدول المغاربة على اعتبار أن الموثقين كانوا يعملون بالتنافس مع العدول غداة الاستقلال في مواد الأحوال الشخصية والميراث والمعاملات في العقار غير المحفظ.. إلى غاية صدور قانون التوحيد والتعريب والمغربة لسنة 1965م، ليحتفظ التوثيق العصري بالاختصاص النوعي في القضايا والعقود والعقود الخاضعة للقانون الدولي الخاص ومسائل التسيير القانوني وتغيير شركات الأشخاص والأموال مع اختصاص نوعي أيضا في قضايا العقار المحفظ أو الذي في طور التحفيظ(61).
والواقع أن مهنة التوثيق مهنة ليبرالية الطابع وقانونها قانون ليبرالي يترك أوسع المجالات للإرادة الفردية وحرية التعاقد. الأمر الذي يفسر ظهوره بالمغرب بشكل متزامن مع المد الاستعماري والخضوع الاضطراري لليبرالية التي تكرست بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وانبثقت عنها المهن ذات الطابع البرجوازي(62).
ثانيا : مضامين ظهير 4 ماي المنظم لمهنة التوثيق العصري سابقا
لقد اعتبر ظهير 4 ماي 1925 التوثيق العصري مهنة حرة منظمة بمقتضى هذا الظهير، وحسب الفصل الأول منه؛ فالموثقون موظفون عموميون يقومون بتلقي الرسوم في نطاق الاختصاص المحدد قانونا والمبرمة بين الأطراف الراغبين في إكسابها الصبغة الرسمية، كما يضطلعون بمهنة نصح الأطراف…ويزاول الموثقون مهامهم في نطاق اختصاص نوعي ومحلي مضبوط قانونا، ويتعينون لمهامهم بظهير شريف بعد أخذ رأي لجنة مختصة، كما هو مقتضى الفصل السادس الذي ينص على أن الموثق يؤدي اليمين القانونية قبل مباشرة مهامه، مع إيداع توقيعهم وشكلهم ونسخة مشهود بصحتها من اليمين لدى كتابة الضبط لدى المحكمة التي يباشرون بها مهامهم.
وقد جاء ظهير 1925م في ست وأربعين فصلا تعرضت للتعديل في مرات كثيرة (63). بل وألغيت بعض الفصول كاملة كالفصل السادس عشر والفصل السابع عشر بموجب ظهير فاتح ماي 1951م.
ويحيل ظهير التوثيق في عدة فصول منه على القانون المدني الفرنسي كما في الفصل السادس وعشرين، كما يحيل أيضا على قانون فانتوز في عدة فصول منها؛ الفصل العاشر والفصل العشرين والفصل الواحد والعشرين والفصل السادس والعشرين والفصل الثامن والعشرين والفاصل التاسع والعشرين وغيرها من الفصول.
ومن هنا نسجل أن التوثيق العصري ذو مرجعية وضعية حيث يستمد أغلب أحكامه من القوانين الوضعية الغربية.
بل كان ينص في ديباجته أنه موضوع لتنظيم شؤون محرري الوثائق الفرنسيين. وهو ذو أصول غير وطنية البتة حيث يحيل بصراحة على القانون المدني الفرنسي وقانون فنطوز..
وأخيرا فقد كان ذو طابع مغاير لقواعد التوثيق الإسلامي سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون.
فالموثق العصري كان يشهد ويتلقى بانفراد كما ينص على ذلك الفصل 21 من ظهير 4 ماي 1925م ويجري دون رقابة القضاء وخطابه على الوثائق كما هو الشأن عند العدول…
ثم إن الموثق العصري يحرر رسوم الحلال الى جانب رسوم الحرام وباللغة الفرنسية غالبا، حيث يوثق شهادات الاعتراف بالأولاد غير الشرعيين كما هو مقتضى الفصل 41 من نفس الظهير (64)..
وبوجه عام نقتصر هنا في هذا العرض بالتنويه الى ان ظهير 4 ماي لسنة 1925 جاء في ست وأربعين فصلا موزعة على ثمانية أبواب وفق التالي :
خُصص الباب الاول لذكر مهام الموثقين واختصاصاتهم.
في الباب الثاني والثالث منه قارب مسائل اقامة الموثقين وتعيينهم ومسطرته ونظم الرسوم التوثيقية العصرية التي يصدرها الموثقون العصريون وتحديد مدى حجيتها وانواعها والمسطرة التي تمر منها…
في حين خصص الباب الرابع والخامس للموانع التي يمنع على الموثق العصري اتيانها وبعض حالات التنافي وكذلك مسطرة المراقبة…مع ذكره ايضا مسطرة التأديب والجزاء.
أما الباب السادس منه فقد نظم فيه المشرع المهام التوثيقية المسندة لرؤساء كتابة الضبط لدى المحاكم الابتدائية..
وتكفل الباب السابع بذكر بعض المقتضيات العام وقد جاء هذ الباب في فصل وحيد هو الفصل 42.
وخُتم فهرس الظهير بالباب الثامن والاخير حيث تعلق بمقتضيات انتقالية في اربعة فصول.
غير أن مقتضيات هذا الظهير بفصوله وأبوابه الموصوفة أعلاه جاء متناقضا كليا مع النظام العام المغربي بمفهومه الواسع الذي يظم الشريعة الاسلامية والدستور وباقي القوانين الجاري بها العمل في المملكة، الأمر الذي دعا المشرع المغربي للتدخل، ولو أن تدخله كان متأخرا لحد كبير إلا أنه وكما يقال ان تأتي ولو متأخرا خير من أن لا تأتي، يتعلق الأمر هنا بقانون 09.32 الناسخ لمقتضيات ظهير 4 ماي 1925 والذي دخل حيز التنفيذ 24 نونبر سنة 2011. اذن ما هي فلسفة هذا القانون وما الجديد الذي أتى به؟
الفقرة الثانية : مؤسسة التوثيق العصري من خلال قانون 09.32
لقد حرص المشرع المغربي وهو بصدد إعداد قانون جديد لمهنة التوثيق العصري وتحديث اَلياته على الانفتاح على المهنيين الفاعلين وإشراكهم في صياغة مقتضياته ومناقشاتها بهدف الإحاطة بالإشكالات الواقعية للقطاع مع الاعتماد على منهجية تحليلية للمشاكل العملية التي تفرزها ممارسة مهنة التوثيق.
وقد تم مراعات عدة اختيارات وتوجهات أثناء صياغة هذا القانون، بحيث تم التأكيد على معيار جودة التكوين من خلال إحداث معهد للتكوين المهني للتوثيق وتنظيم مباراة الانخراط في المهنة التي أعفي منها المحافظون على الأملاك العقارية ومفتشو الضرائب المكلفون بالتسجيل، كما تم تحديد اختصاصات وحقوق وواجبات الموثقين مع تدقيق وتحديد مسطرة الانتقال والمتابعات التأديبية (65).
وصار تعيين الموثقين وتحديد مقر عملهم يتم بقرار لرئيس الحكومة بعد اقتراح من وزير العدل وإبداء اللجنة المنصوص عليها في المادة 11 رأيها في الموضوع…كما تم تعديل مادة الجنسية والتي كانت تثير كثيرا من الانتقادات (66).
ورغم أن المشرع ضبط مسؤولية الموثقين عن الأضرار الناتجة عن أخطائهم المهنية وأخطاء المتمرنين لديهم وأخطاء مستخدميهم وألزمهم التأمين عن المسؤولية المدنية (67) فإن تنظيم المشاركة بين الموثقين المنتمين لنفس الدائرة الترابية للمحكمة الاستئنافية يعد من أهم المستجدات التي جاء بها القانون 09.32 في قسمه الثالث من المادة 59 الى غاية المادة 64.
وقد تم أيضا إسناد الرقابة على عمل الموثق وتأديبه بموجب أحكام القسم الرابع من القانون 09.32 للوكيل العام لمحكمة الاستئناف التابع لها مكتب الموثق ولوزارة المالية وذلك بتعاون مع المجلس الوطني للموثقين…
كما تم تجديد صندوق التأمين في القسم السادس من القانون وأصبح يحمل اسم “صندوق الضمان”.
ثم أخيرا أتى القانون بالجديد على صعيد تنظيم القطاع حيث أفرد القسم السابع لهذا الغرض فأحدث المجلس الوطني للموثقين بمقتضى المادة 97 (68)ومتعه بالشخصية المعنوية…
وعموما جاء القانون 09.32 ليتدارك عيوب ظهير 4 ماي لسنة 1925 التي لم تعد تساير الواقع الحديث ان لم نقل بأنها كانت تتعارض مع الثوابت الوطنية في الأصل. وقد جاءت مواد القانون في 133 مادة موزعة على ثماينة أقسام وفق التالي:
القسم الأول: وقد تضمن التعريف بمهنة التوثيق وتحديد شروط الانخراط وحقوق وواجبات الموثق. وقد عولجت هذه المسائل في ثلاثة أبواب شملت المواد من 1 الى 34.
القسم الثاني: وقد تناول اختصاصات الموثق وتحرير العقود وحجيتها وحفظها وتسليم النظائر والنسخ. وكل هذه المهام ذكرت في ثلاثة أبواب أيضا ضمت المواد من 35 الى غاية 58.
القسم الثالث: ويعالج مشاركة الموثقين في ست مواد وهي 59 و60 و61 و62 و63 و64.
القسم الرابع: ويتطرق لمراقبة الموثقين وتأديبهم على مدى بابين تضمنا المواد من 65 والى غاية 89.
القسم الخامس: ويتطرق للمقتضيات الزجرية في أربع مواد وهي 90 و 91 و92 و93 .
القسم السادس: وينظم صندوق الضمان في ثلاث مواد هي 94 و95 و96.
القسم السابع: ويهم تنظيم الهيئة الوطنية للموثقين، وذلك في ثلاثة أبواب شملت المواد من 97 الى غاية 126.
القسم الثامن والاخير: وقد عالج بصفة خاصة بعض المقتضيات الختامية في سبع مواد من 127 الى 133.
خاتمة :
في ختام هذا العمل لا يسعنا ابتداء إلا أن نشيد بالإصلاحات الجذرية التي اقدم عليها المشرع المغربي في ما يتعلق بمهنة التوثيق – بشقيه العصري والعدلي – حينما أقدم على سن قانون جديد لمهنة التوثيق العدلي محاولا استدراك الشوائب والنقائص التي عرفتها هذه المهنة منذ مجيئ المستعمر والى يومنا هذا. نتحدث هنا عن التوثيق العدلي قانون 03.16 الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2006 الذي عمل على نسخ كل الظهائر والقوانين السابقة…هذا من جهة. أما في ما يتعلق بالتوثيق العصري فالحديث عن هذه المؤسسة الغريبة قد لا تكفي بضع كلمات نختم بها في وصف مساوئه وويلاته على الدولة المغربية من الحماية ولحد الساعة…هذا الظهير الذي عمر قرابة قرن من الزمن لم يتجرأ المشرع المغربي على تعديل بنوده ومضامينه الا في الالفية الثانية مع العلم ان مضامين هذا القانون ” الفنطوزي ” كانت تتعارض مع الثوابت الدينية والقوانين الوطنية الوضعية…هذه الجرأة توجت اخيرا بقانون 09.32 الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2012 وبمجيئه يكون قد نسخ ظهير 4 ماي لسنة 1925 وكل توابعه.
ولئن كان المشرع المغربي في تعديل بنود هذا القانون ونسخ ذاك فانه وكما يقال أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي.
وبناء عليه فإننا نتساءل متى سيقدم المشرع المغربي على توحيد منظومته التوثيقية؟ بل وقبل ذلك هل سد كل من قانون 03.16 وقانون 09.32 كل الثغرات التي سادت في المنظومة التوثيقية السابقة؟؟
لائــحــــــــــــة الاحــــــــالات
(1) ـــــ ابن فرحون اليعمري (719ء799هـ، 1319ء 1396م).
.كتاب (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام) دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416/1995، ج 1، ص: 200.
(2) ـــــ أبو العباس أحمد بن يحيي بن عبد الواحد الونشريسي: المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، دراسة وتحقيق لطيفة الحسني، طبعة وزارة الأوقاف الرباط 1418 هـ /1997م ، ص: 209 .
(3) – سورة النساء، الآية : 5.
(4) ـ سورة البقرة، الآية: 282.
(5) – الشيخ العلامة والفقيه الإسلامي أبو بكر ابن العربي ” أحكام القران ” القسم الأول، الطبعة الثانية، تحقيق : الأستاذ /علي محمد البجاوي مصر 1967 صفحة رقم 258
(6) – سورة البقرة، الآية: 282.
(7) – نفس الآية
(8)- نفس الآية
(9) -نفس الآية
(10) – نفس الآية
(11)- سورة النساء، الآية 95.
(12) – الإمام البخاري: صحيح البخاري، الطبعة الخامسة 1414/ 1993.
(13)- الكتاني: التراتيب الإدارية والعمالات الصناعية، 1946، ج: 1، ص: 274.
(14)- محمد حميد الله : مجموعة الوثائق السياسـية للعهـد النـبوي، دار النفـائس، الطبـعـة السادسة 1987، صص: 129ء130.
(15)- أبو إسحاق الغرناطي: الوثائق المختصرة، أعدها مصطفى ناجي، مركز إحياء التراث المغربي، 1988م، ص:12.
(16)- أبو إسحاق الغرناطي: م.س ، ص 12.
(17)- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، المطبعة المصرية،ج:87 ص: 50.
(18)انظر : شرف الطالب ص 78 تحقيق د. محمد حجي ط : الرباط
(19) ابن الملون : محمد بن سعيد الموثق من قرطبة كان حافظا لرأي مالك عالما بالشروط . انظر : تاريخ العلماء والرواة لابن الفرضي ج 2 ص 14 .
(20) إبراهيم بن سليمان بن أبي زكرياء من أهل رية توفي سنة 326 . أنظر تاريخ العلماء والرواة بالأندلس لأبي الفرضي ج 1 ص 24 .
(21) ابن لبابة : هو محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة يكني أبا عبد الله ولي قضاء البيرة والشورى بقرطبة، مات بلا سكندرية سنة 330 ه ـ 942 م . بغية الملتمس 134 وجذوة المقتبس 91
(22) ابن العطار : هو محمد بن أحمد بن عبد الله توفي سنة339 .
(23) ابن أبي زمنين : مجمد بن عبد الله بن عيسى المري من أهل ابيرة انظر : تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2 / 80 ـ الديباج 269 . الوافي بالوفيات 2 / 321 . جذوة المقتبس 53 وإعلام الزركلي 7 / 101 .
(24) ابن الهندي : أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمذاني توفي 399 ه . وانظر الصلة 19 .
(25) ابن الفخار : محمد بن عمر بن يوسف توفي 419 . انظر تحرير الوثائق العدلية ص : ه .
(26) الباجي : يعرف بابن شريعة محمد بن احمد بن عبد الله بن محمد الخمي الباجي الاشبيلي توفي سنة 433 . المصدر السابق
(27) ابن مزين : محمد بن عبد الله بن مزين القرطبي المتوفى سنة 434 . المصدر السابق .
(28) ابن مغيث : احمد بن مغيث الصدفي من أهل طليطيلة محدث فرضي لغوي … توفي في صفر 459 . انظر الصلة 122 .
(29) ابن فتوح :عبد الله بن فتوح بن موسى الفهري من أهل البونت توفي سنة 462 .انظر الصلة 611
(30) ابن فرج : أبو عبد الله محمد بن فرج الأندلسي توفي سنة 497 ه .
(31)ابن فتحون : محمد بن خلف بن سليمان بن فتحون من أهل أريولة توفي بمرسية سنة 520 ه ـ 1126 م . انظر الصلة 519، التكملة 104 الوافي بالوفيات 3 / 45، إعلام الزر كلي 6 / 348 .
(32) المتيطي : علي بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الأنصاري درس بقاس واستوطن سبتة واشبيلية، توفي سنة 570 ه. انظر جدوة الاقتباس ج 2 ص 480 ط : دار المنصور .
(33) ابن عياد : يوسف بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن زيد مؤرخ فقيه ومحدث سكن بلنسية توفي شهيدا سنة 575 ه ـ 1180 م . انظر ترجمته في إعلام ازركلي 9 / 317 .
(34) الجزيري : على بن يحيى بن القاسم الصنهاجي أصله من بلاد الريف مما يحاذى غمارة نزل الجزيرة الخضراء فنسب إليها وولي قضاءها توفي 585. انظر التكملة ترجمة 2878.
(35) العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين ص 57 ط ثانية .
(36) الصغير : أبو الحسن على بن عبد الحق الزرويلي الخمسي الغماري من كبار المفتين بالمغرب ولي قضاء فاس ودرس بها . توفي سنة 719 ه ـ 1319 م . انظر : اعلام الزركلي 5 /156 . الاستقصا 2 / 49 ـ 87 . شجرة النور الزكية 215 وجذوة الاقتباس 2 / 472 ط : دار المنصور
(37) انظر مقدمة تحرير الوثائق العدلية لابو الشتاء الصنهاجي ص : و .
(38) الفشتالي : محمد بن احمد بن عبد الملك تولى قضاء فاس، توفي سنة 777 ه ـ 1375 م . أنظر : اعلام الزركلي 6 / 225 الدرر الكامنة 3 / 330 . جدوة الاقتباس 1 / 234.
(39) ابن سلمون : عبد الله بن علي بن عبد الله بن سلمون الكتاني ولد بغرناطة وتنقل بين مالقة وسبتة شجرة النور 214 . اعلام الزركلي 4 / 243 .
(40) الونشريسي : احمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني حامل لواء المذهب انتقل إلى فاس سنة 874 وتوفي بها سنة 914 ه ـ 1508 . انظر ا لاستقصا 2/182 . فهرس الفهارس 2/438 . البستان 53 وتعريف الخلف 1 / 58 . أعلام الزركلي 1/255 . جذوة الاقتباس 1 / 156 أعلام الجزائر 49 .
(41) الزقاق : علي بن قاسم بن محمد الزقاق التجيبي توفي سنة 912 . انظر : جدوة الاقتباس 2 / 476 .
(42) ابن عرضون : ابو العباس احمد بن الحسن بن يوسف بن محمد بن عمر بن يحيى بن عمر الزجلي الموسوري الصالحي الفرشي الغماري … انظر ترجمته في المصادر التالية : شجرة النور ص 286 ومعجم المؤلفين لكحالة 1 /199 والإعلام للزركلي 1/108 والفكر السامي للحجوي 1 / 104 والبستان لابن عجيبة 1 / 141 وسلوى الأنفاس 2 / 268 وجدوة الاقتباس 1 / 160 وهو فيه احمد بن علي . معجم سركيس 1 / 179 . اليواقيت الثمينة 18 وملحق بروكلمان 2 / 693 وجامع القرويين 2 / 512 . والأبحاث السامية لمحمد المورير 1 / 197 ـ 198 …
(43) – الجريدة الرسمية عدد 63 الصادرة بتاريخ 23 شعبان 1332 ق 17/07/1914 .
(44)- الفقرة الأولى من الفصل الثالث من ظهير 7 يوليوز 1914.
(45) – الفقرة الثانية من الفصل الثالث من ظهير 7 يوليوز 1914.
(46)- الفصل الثاني من منشور عدد 5134، المتعلق بكناش الجيب.
(47)- الفصل الثاني من ظهير 7 فبراير 1944.
(48) – الفصل الأول من ظهير 6 ماي 1982.
49 ـ وهو قانون 25 شهر فانتوز السنة الحادية عشرة من التقويم الجمهوري لفرنسا؛ ويناسب هذا التقويم الفرنسي في التقويم الميلادي تاريخ : 26 مارس لسنة 1803م.
50 ـ محمد جميل بن مبارك. التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ط1/1421هـ 2000م. مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاءـ المغرب. ص:6.
51 ـ عبد الكريم بوكير ، أصول التوثيق العصري المغربي، مقال منشور بمجلة الملف، العدد 11أكتوبر 2007م .
52- عبد المجيد بوكير، التوثيق العصري المغربي،ط2/1431هـ 2010م، مكتبة دار السلام ـ الرباط.ص:22.
53ـ حسين الصفريوي، الوجيز في القانون الخاص التوثيقي بالمغرب، ط/1988، مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء.ص:12.
54ـ عبد المجيد بوكير، مرجع سابق، ص:23.
55- عبد المجيد بوكير، مرجع سابق، نفس الصفحة.
56- قانون رقم 09.32 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق العصري ، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11..179 في 25 ذي الحجة 1432هـ/22 نونبر 2011م، منشور بالجريدة الرسمية عدد:5998 بتاريخ: 27 ذو الحجة 1432هـ/ 24 نونبر 2011م.
57ــ ذ.عبد الكريم كريس. محاضرات اعدها لطلبة الاجازة في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، طنجة.ص:3. (بدون).
58ـ د.مرزوق ايت الحاج، الوجيز في التوثيق العدلي بين النظر والتطبيق، ط1/1426هـ 2005 م، طوب بريس، ص:86.
59ـ د.عبد المجيد بوكير، م.س، ص:25
60ـ د.عبد الرحمان بلعكيد، وثيقة البيع بين النظر والعمل، ط 3/2001، ص: 46 .
61ـ ذهب الأستاذ عبد الرحمان بلعكيد إلى أن الموثقين العصريين في ظل ظهير 4 ماي السابق لسنة 1925 كانوا يختصون بالإشهاد في بيع العقارات المحفظة أو التي في طور التحفيظ طبقا لمقتضيات الفصل الخامس من ظهير 4 ماي 1925م. وهو نفس موقف الدكتور حسين الصفريوي.
62ـ د.عبد المجيد بوكير، م.س، ص 29.
63ــ كالتعديل الذي لحق الفصل الاول بظهير 18 ماي 1934، والفصل 5 بظهير 20 يناير 1945، والفصول 13 و14 و15 بظهير فاتح ماي 1951، والفصل 18 بظهير 16 فبراير 1937 والفصل 19 بظهير 16 فبراير 1949. وغير ذلك حيث بلغت عدد الظهائر التي عُدلت تسعة كلها في عهد الاستعمار، اللهم تعديل واحد بعيد الاستقلال شمل الفصل 15 وذلك بظهير 1957.
64ـ جاء في الفصل 41 : “يمكن كذلك لرئيس كتابة الضبط لدى المحكمة الابتدائية المسندة اليه مهام التوثيق ان يتلقى وفق الشروط المتطلبة قانونا الوصايا والاعترافات بالأولاد غير الشرعيين …”
65ـ د.عبد المجيد بوكير، م.س، ص:36.
66ـ بحيث اشترطت المادة 3 أن يكون المترشح مغربيا. على عكس الظهير السابق الذي كان يشترط الجنسية الفرنسية
67ـ جاء في المادة 26 في هذا الخصوص: ” يتحمل الموثق مسؤولية الاضرار المترتبة عن أخطائه المهنية وأخطاء المتمرنين لديه وفق قواعد المسؤولية المدنية…”
68ـ جاء في المادة 97 بهذأ الخصوص : “تحدث بمقتضى هذا القانون هيئة وطنية للموثقين تتمتع بالشخصية المعنوية وتضم وجوبا جميع الموثقين”.