المسؤولية عن فعل الغير
المسؤولية عن فعل الغير
الأصل أن الانسان لا يسأل إلا عن عمله الشخصي، ولكن يمكن على وجه الاستثناء أن يرتب القانون على شخص مسؤولية عمل قام به غيره، وفي هذه الحالة لا تقوم المسؤولية إلا بالنسبة للأشخاص الذين عددهم القانون حصرا.
ومشرع قانون الالتزامات والعقود المغربي بعد أن أوضح في الفقرة الأولى من الفصل 85 أن “الشخص لا يكون مسؤولا عن الضرر الذي يحدثه بفعله فحسب، لكن يكون مسؤولا أيضا عن الضرر الذي يحدثه الأشخاص الذين هم في عهدته “، قد عدد في الفقرات التالية من الفصل المذكور مختلف فئات الأشخاص الذين يمكن مساءلتهم عن فعل الغير. وهذه الفئات هي :
1- : الأب فالأم بعد موته بالنسبة للضرر الذي يحدثه أبنائهما القصر المقيمون معهما ؛
2- : المخدوم والمتبوع بالنسبة للضرر الذي يحدثه الخادم أو التابع ؛
3- : أرباب الحرف بالنسبة للضرر الذي يحدثه متعلموهم ما داموا تحت رقابتهم ؛
4- : الأب والأم وغيرهما من الأقارب والأزواج بالنسبة للضرر الذي يحدثه المجانين وغيرهم من مختلي العقل إذا كانوا يقيمون معهم وكذلك من يتحمل بمقتضى عقد، رعاية هؤلاء الأشخاص أو رقابتهم ؛
5- : المعلمون وموظفي الشبيبة والرياضة بالنسبة للضرر الحاصل من الأطفال والشبان خلال الوقت الذي يوجدون فيه تحت رقابتهم.
ومسؤولية هاته الفئات ليست على نمط واحد، فمسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة تتوقف على إثبات خطأ في جانبهم وفقا للقواعد القانونية العامة. ومسؤولية الأب والأم عن عمل أبنائهما القصر، وأرباب الحرف عن عمل متعلميهم والمعهود إليهم برقابة المجانين وغيرهم من مختلي العقل بمقتضى نص في القانون، أو بمقتضى عقد رعاية هؤلاء الأشخاص، تقوم قرينة قانونية على تحققها. ولكن هذه القرينة قابلة للبينة المعاكسة بجميع طرق الإثبات. ومسؤولية المخدوم والمتبوع عن عمل خادمه أو تابعه تقوم كذلك قرينة قانونية على تحققها. وهذه القرينة قاطعة لا تقبل البينة المعاكسة.
وتجدر الملاحظة إلى أن المسؤولية عن فعل الغير لا تزيل المسؤولية الشخصية المترتبة على مرتكب الفعل الضار، بل هي تقوم معها جنبا إلى جنب، فالخادم والمجنون إذا كان في حالة إفاقة، والصغير أو الطالب أو المتعلم إذا كان مميزا يتحملون شخصيا مسؤولية ما يصدر عنهم من أعمال غير مشروعة. وبذلك يكون للمضرور أن يلاحق مرتكب الفعل الضار من هؤلاء كما يكون له إن ملا حقة المسؤول عن أفعالهم. ولما كان مرتكب الفعل الضار من صغير أو متعلم أو خادم أو طالب لا يملك عادة شيئا ولا تجدي ملاحقته، فإن المضرور يفضل عمليا مقاضاة المسؤول عن أفعالهم لأن ذمة هذا المسؤول تكون في الغالب مليئة ويستطيع عن طريق مقاضاته الحصول على التعويض الذي يستحقه.
ويقتضي بحث هذه المسؤولية أن نعرض بادئ ذي بدء لمسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة حيث لا بد من إثبات ارتكاب هؤلاء خطأ لترتيب المسؤولية عليهم، ثم لمسؤولية من يولى رقابة القصر والمتعلمين والمجانين وغيرهم من مختلي العقل حيث تقوم قرينة قانونية على تحققها مع إمكان هدم هذه القرينة بالبينة المعاكسة ؛ ثم أخيرا لمسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه حيث تقوم قرينة قانونية على تحققها وعليه سنقسم هذا الفصل إلى ثلاثة فروع.
الفرع الأول : مسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة
عرض قانون الالتزامات والعقود المغربي لمسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة في الفصل 85 مكرر. وتتلخص الأحكام الوارد عليها النص في الفصل المذكور بالقواعد التالية :
أولا : رجال التعليم العام والخاص وموظفي الشبيبة والرياضة يسألون عن الضرر الحاصل من الأطفال والشبان خلال الوقت الذي يوجدون فيه تحت رقابتهم. فمسؤولية رجل التعليم وموظف الشبيبة والرياضة منوطة إذن بوجود الطالب تحت رقابته. فبمجرد إنهاء هذه الرقابة أي بمجرد مغادرة الطالب المرسة أو الملعب أو القاعة المخصصة للرياضة تزول مسؤولية رجل التعليم أو التربية، ويعود الطالب أو القاصر إلى رقابة وليه ويتحمل الشاب كامل الأهلية بنفسه مسؤولية أعماله الضارة.
ثانيا : إن مسؤولية رجال التعليم وموظفي الشبيبة و الرياضة لا تقوم على أساس خطأ مفترض، بل على أساس خطأ يجب إقامة الدليل عليه عملا بمبادئ المسؤولية الشخصية. وهذا ما أوضحته الفقرة الثانية من الفصل 85 مكرر إذ علقت تحقيق مسؤولية رجال سلك التعليم والتربية على إثبات المدعي “الخطأ أو عدم الحيطة أو الإهمال” في جانبهم “وفقا للقواعد القانونية العامة.
ثالثا: تحل الدولة في المسؤولية محل رجال سلك التعليم العام وموظفي الشبيبة والرياضة بالنسبة لأي فعل ضار يرتكب من الأطفال أو الشبان أو يرتكب عليهم أثناء وجودهم تحت رقابتهم. وفي حالة وقوع الضرر يمتنع على المضرور أو ممثله مقاضاة المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة أمام المحاكم المدنية، بل يجب عليه إقامة الدعوى على الدولة بوصفها حالة محل رجال التعليم أو التربية.
ومسؤولية الدولة تحل محل مسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة في كل حالة يعهد فيها إليهم بالأطفال أو الشبان بغرض التهذيب الخلقي أو الجسدي الذي لا يخالف الأنظمة ويوجدون بذلك تحت رقابتهم لا فرق بين أن يقع الفعل الضار في أوقات الدراسة أو خارجها.
رابعا : إن دعوى المسؤولية التي يقيمه المضرور أو أقاربه أو خلفاؤه على الدولة بوصفها مسؤولة عن الضرر (الجهة المختصة. ..)
خامسا : لا يسوغ في الدعوى الأصلية التي يرفعها المضرور ضد الدولة أن تسمع شهادة الموظفين الذين يمكن أن تمارس الدولة ضدهم دعوى الرجوع لاسترداد ماحكم به عليها.
سادسا : يجوز للدولة أن تباشر دعوى الاسترداد إما على رجال التعليم وموظفي إدارة الشبيبة والرياضة، وإما على الغير وفقا للقواعد العامة. ويتوقف نجاح دعوى الاسترداد على ثبوت ارتكاب المدعى عليه من رجال التعليم أو التربية أو من الغير خطأ يبرر مسؤوليته.
سابعا : إن دعاوى المسؤولية التي ترفع على رجال التعليم الخاص لمطالبتهم بالتعويض عن الضرر الحاصل من الطلاب أو الواقع عليهم، ودعاوى المسؤولية التي ترفع على الدولة بوصفها حالة محل رجال التعليم العام وموظفي الشبيبة والرياضة لمطالبتها بالتعويض عن الضرر الحاصل من الطلاب أو اللاحق بهؤلاء تتقادم بمضي ثلاث سنوات تبدأ من يوم ارتكاب الفعل الضار. وهكذا يختلف تقادم دعوى المسؤولية التي ترفع على رجال التعليم الخاص أو على الدولة بوصفها حالة محل رجال التعليم العام وموظفي الشبيبة و الرياضة في المسؤولية عن تقادم دعوى المسؤولية التقصيرية عموما، وذلك سواء من حيث المدة اللازمة لتحقق التقادم أو من حيث بدء هذه المدة.
ففي حين تتقادم دعوى المسؤولية على رجال التعليم الخاص أو على الدولة بوصفها حالة محل رجال التعليم العام وموظفي الشبيبة والرياضة بثلاث سنوات، نرى دعوى المسؤولية التقصيرية عموما تتقادم بخمس سنوات إذا بلغ إلى علم الطرف المضرور الضرر الواقع ومن هو المسؤول عنه وإلا فبعشرين سنة.
وفي حين تبدأ مدة التقادم الثلاثي في الدعوى الأولى من يوم ارتكاب الفعل الضار، فإن مدة التقادم الخمسي في الدعوى الثانية لا تبدأ إلا منذ أن يبلغ علم الطرف المضرور الضرر الواقع ومن هو المسؤول عنه. وما لم يبلغ إلى علم الطرف المضرور هذان الأمران معا فإن الدعوى لا تتقادم إلا بمرور عشرين سنة، وعندها يكون بدء التقادم منذ وقوع الضرر لا منذ ارتكاب الفعل الضار كما في دعوى المسؤولية على رجال التعليم الخاص أو على الدولة عندما تحل محل رجال التعليم العام وموظفي الشبيبة والرياضة.
الفرع الثاني : مسؤولية المكلفين برقابة القصر والمتعلمين والمجانين وغيرهم من مختلي العقل
مسؤولية المكلفين برقابة القصر والمتعلمين والمجانين وغيرهم من مختلي العقل تتميز من حيث أنها تقوم على خطأ مفترض في جانبهم بمقتضى قرينة قانونية. وقوام هذا الخطأ المفترض هو التقصير في الرقابة. فالشخص الذي ألحق به القاصر أو المجنون او المتعلم ضررا ليس عليه أن يثبت خطأ المكلفين برقابة من أحدث الضرر، لأن هؤلاء يعتبرون مسؤولين حكما عن الأفعال الضارة التي يرتكبها من هم تحت رقابتهم وإشرافهم. إنما باستطاعتهم تجنب المسؤولية إذا هم أقاموا الدليل على أنهم لم يقصروا في الرقابة، ولم يكن في وسعهم تلافي وقوع الضرر رغم يقظتهم : ذلك أن قرينة الخطأ التي تقوم عليها مسؤوليتهم هي قرينة بسيطة تقبل البينة المعاكسة.
لمعالجة هذا الموضوع سنتطرق لمسؤولية المكلفين برقابة القصر في مبحث أول، ثم لمسؤولية المكلفين برقابة المجانين وغيرهم من مختلي العقل في مبحث ثان على أن نتناول في مبحث ثالث أرباب الحرف عن الضرر الحاصل من متعلميهم.
المبحث الأول : مسؤولية المكلفين برقابة القصر
تعيين المسؤولين عن رقابة القصر :
ورد في الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود أن ” الأب فالأم بعد موته يسألان عن الضرر الذي يحدثه أبناؤهما القصر المقيمون معهما “.
فالمشرع المغربي قد حصر إذن المسؤولية المترتبة عن الأفعال الضارة التي يرتكبها القصر بالأب فالأم بعد موته. أما الوصي أو غيره من الأصول والأقارب كالأعمام والأخوال والعمات والخالات. فلا يسألون عن الضرر الذي يحدثه القاصر ولو كان مقيما في كنفهم. وفي هذا حيف يلحق بالمضرور عندما يكون مرتكب العمل الضار قاصرا يتيما أو قاصرا مقيما عند أحد أصوله كجد أو جدة أو أحد أقاربه كعم أو عمة أو خال أو خالة.
ولئن كان الآباء والأمهات يسألون عن الأعمال الضارة التي يرتكبها أولادهم القصر المقيمون معهم، فذلك للولاية التي يتمتع بها الآباء والأمهات على أبنائهم، وما تستبعه هذه الولاية من التزام بالقيام برقابة وتربية من هم في كنفهم من القصر.
وارتباط مسؤولية الآباء والأـمهات بالولاية يقودنا إلى تقرير القواعد التالية :
أولا : تترتب المسؤولية مبدئيا على الأب، لأنه هو صاحب الولاية في الأصل، أما الأم فلا تتحمل هذه المسؤولية إلا بعد موت الأب كما هو صريح النص، وإذا حصل طلاق او تطليق او خلع وتقرر أن يكون الولد القاصر في حضانة أمه.
ثانيا: تزول مسؤولية الأب أو الأم ببلوغ ابنهما سن الرشد، إذ عندها يستقل الابن بنفسه فلا يعيش، قانونا على الأقل في كنف أبيه أو أمه وإذا ما ارتكب عملا غير مشروع فيتحمل هو مسؤولية هذا العمل و لا يمكن مساءلة الأب أو الأم إلا إذا أثبت المضرور ارتكابهما خطأ معينا يبرر هذه المسؤولية، لأن قرينة الخطأ المقررة بحق الآباء والأمهات تطوى ببلوغ الابناء سن الرشد.
ثالثا: لا تترتب مسؤولية الأب او الأم على ابنهما القاصر إلا إذا كان يعيش في كنفهما ويوجد تحت رقابتهما. وهذا ما أراده المشرع عندما حصر في الفصل 85 مسؤولية الوالدين في الضرر الذي يحدثه القاصر المقيم معهما. فالأب والأم يسألان عن الضرر الذي يحدثه ابنهما القاصر حتى لو كانا طرداه من المنزل او لو كان الابن قد فر منه. بل إن ما قصده المشرع هو أن يكون القاصر في كنفهما وتحت رقابتهما لا تحت رقابة شخص آخر كمعلم مدرسة أو رب حرفة. فالقاصر إذا ذهب إلى المدرسة انتقلت رقابته إلى معلمه، وإذا ذهب إلى حيث يتعلم حرفة انتقلت الرقابة إلى رب الحرفة.
وبديهي أن رقابة المعلم أو رب الحرفة تقوم فقط في الفترة التي يوجد فيها القاصر في المدرسة أو عند رب الحرفة، فإذا انتهت هذه الفترة عادت الرقابة إلى أبيه أو أمه.
دفع المسؤولية :
مر معنا أن مسؤولية الأب أو الأم تقوم على خطأ مفترض بمقتضى قرينة قانونية، وأن هذه القرينة القانونية تقبل النقض بالبينة المعاكسة. وفي هذا يقول الفصل 85 :” وتقوم المسؤولية المنوه عنها إلا إذا أثبت الأب أو الأم أنهما لم يتمكنا من منع وقوع الفعل الذي أدى إليها “.
فالأب والأم يستطيعان نفي الخطأ عن نفسهما إذن، إذا أثبتا أنهما يعتنيان بولدهما ويحسنان تربيته، وأنهما اتخذا الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون وقوع العمل الذي أضر بالغير.
وكذلك يستطيعان دفع مسؤوليتهما بنفي علاقة السببية بين الخطأ المفترض في جانبهما والعمل الضار الذي ارتكبه القاصر. فإذا ما أثبت الأب أو الأم أن العمل الضار الذي وقع من القاصر إنما كان لسبب أجنبي من شأنه أن يؤدي إلى وقوعه رغم اتخاذ جميع الاحتياطات لترتب على ذلك انتفاء علاقة السببية بين الخطأ المفترض في جانب الأب أو الأم وبين العمل الضار. وانتفاء السببية يؤول حتما إلى دفعها.
ويلاحظ هنا أن انتفاء المسؤولية إنما هو بالنسبة إلى المكلف بالرقابة لا بالنسبة إلى من يخضع للرقابة، إذ لو كان العمل الضار الذي صدر من القاصر يرجع إلى سبب أجنبي لا يد للقاصر فيه كأن يكون حصل نتيجة قوة قاهرة أو نتيجة خطأ ارتكبه المضرور نفسه، لانتفت مسؤولية القاصر نفسه، وبانتفاء مسؤولية القاصر تنتفي طبعا مسؤولية المكلف برقابة هذا القاصر.
المبحث الثاني : مسؤولية المكلفين برقابة المجانين وغيرهم من مختلي العقل
تعيين المسؤولين عن رقابة المجانين ومختلي العقل : ورد في الفصل 85 أن “الأب والأم وغيرهما من الأقارب أو الأزواج يسألون عن الأضرار التي يحدثها المجانين وغيرهم من مختلي العقل، إذا كانوا يقيمون معهم وذلك حتى ولو كانوا قد بلغوا سن الرشد ” ثم أضاف الفصل المذكور ” ويسري نفس الحكم على من يتحمل بمقتضى عقد رعاية هؤلاء الأشخاص أو رقابتهم “.
فمصدر واجب رقابة المجانين وغيرهم من مختلي العقل قد يكون إذن القانون وقد يكون الاتفاق : يقع واجب الرقابة قانونا على الأب والأم والزوج و الزوجة أو بصورة أعم على أي قريب يقيم معه المجنون أو مختل العقل من جد أو جدة أو عم أو عمة أو خال أو خالة، وتجب الرقابة اتفاقا على كل شخص يعهد إليه بمقتضى عقد برعاية المجنون كمدير مستشفى خاص بالأمراض العقلية، أو طبيب أو ممرض تسند إليه مهمة رعاية مختل العقل.
شروط تحقق المسؤولية :
يشترط لتحقق مسؤولية متولي الرقابة الشروط التالية :
1 يجب أن يكون هناك شخص تجعله حالته العقلية في حاجة إلى رعاية تحول دون صدور عمل منه يضر بالغير كأن يكون مصابا بجنون أو عته أو اختلال في ملكاته العقلية. فالرقابة هنا تقوم إذن لسبب غير سبب السن لذلك كان المكلف بالرقابة مسؤولا في هذه الحالة عمن هو تحت رقابته حتى ولو كان بالغا سن الرشد.
2 لا تترتب مسؤولية المكلفين بالرقابة قانونا أي الأب أو الأم وغيرهما من الأقارب أو الأزواج، إلا إذا كام المجنون أو مختل العقل تحت رقابتهم شأنهم في ذلك شأن المكلفين برقابة القصر. لذا علق المشرع قيام مسؤوليتهم على كون المجنون أو مختل العقل “مقيما معهم”، والمقصود بهذه العبارة هنا كما بالنسبة للمكلفين برقابة القصر، أن يكون المجنون أو مختل العقل في كنف أقربائه المكلفين برقابته، لا في كنف شخص آخر كمدير مستشفى أو طبيب أو ممرض إذ في هذه الحالة تتلاشى الرقابة القانونية، وتحل محلها الرقابة الاتفاقية، فيصبح هؤلاء هم المسؤولون عن الأعمال الضارة التي يرتكبها المجنون أو مختل العقل الذي عهد إليهم برعايته.
دفع المسؤولية :
إن مسؤولية المكلفين قانونا أو بمقتضى عقد برقابة المجانين وغيرهم من مختلي العقل مبنية على خطأ مفترض، بمقتضى قرينة قانونية قابلة للبينة المعاكسة. لذا أجاز لهم المشرع دفع مسؤوليتهم إذا هم أثبتوا أنهم باشروا على المجانين وغيرهم من مختلي العقل الرقابة الضرورية وأن أي إهمال لا يمكن أن يسند إليهم في القيام بواجب الرقابة.
كذلك يستطيع المكلفون برقابة المجانين ومختلي العقل دفع مسؤوليتهم بنفي العلاقة السببية الخطأ المفترض في جانبهم وبين العمل الضار الذي ارتكبه من هو واقع تحت رقابتهم، كأن يثبتوا أنهم كانوا يجهلون الصفة الخطرة في مرض المجنون وهي حالة نص عليه المشرع صراحة إذ أجاز للمكلف في الرقابة أن يتحلل من المسؤولية إذا هو أقام الدليل على أنه ” كان يجهل خطورة مرض المجنون “.
ثم إن مسؤولية المكلفين بالرقابة تنتفي إذا ما انتفت مسؤولية من هو واقع تحت رقابتهم كأن يثبتوا أن الحادثة التي سببت الضرر قد وقعت بخطأ المضرور نفسه (وهي حالة عرض لها المشرع) أو كأن يثبتوا أن الضرر الذي أصاب المضرور كان نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ الغير، حيث تنتفي كذلك مسؤولية المجنون أو مختل العقل وانتفاء هذه المسؤولية تستبع بالضرورة انتفاء مسؤولية المكلف برقابته.
المبحث الثالث : مسؤولية أرباب الحرف
نص الفصل 85 على أن” أرباب الحرف يسألون عن الضرر الحاصل من المتعلمين عندهم خلال الوقت الذي يكونون فيه تحت رقابتهم “. فالمتعلم يعتبر أثناء عمله تحت رقابة رب الحرفة الذي يتمرن لديه، لذا فكل ضرر يحدثه المتعلم للغير وهو تحت هذه الرقابة يسأل عنه رب الحرفة. وتستدعي هذه الحالة من الرقابة الملاحظات التالية :
أولا : إن الضرر الذي نحن بصدده والذي يسأل عنه رب الحرفة هو الضرر الذي يلحقه المتعلم بالغير، أما الضرر الذي يصيب المتعلم نفسه أثناء العمل فآثاره تخضع للتشريع المتعلق بحوادث الشغل.
ثانيا: لا تترتب مسؤولية رب الحرفة إلا إذا كان الضرر وقع أثناء وجود المتعلم تحت رقابته. أما إذا انتهت فترة التمرين، وغادر المتعلم محل عمله، فرقابة رب الحرفة تطوى، وتعود الرقابة إلى الأب أو الأم فيصبحان مسؤولين وحدهما عما يمكن أن يحدثه المتعلم من ضرر، هذا ما لم يكن المتعلم كامل الأهلية فيتحمل بنفسه مسؤولية أعماله الضارة.
ثالثا : إن مسؤولية رب الحرفة كمسؤولية المكلفين برقابة القصر أو المجانين وغيرهم من مختلي العقل مدارها خطأ مفترض، بمقتضى قرينة قانونية تقبل البينة المعاكسة. لذا يصلح هنا ما قلناه هناك بصدد دفع المسؤولية في الحالة التي يثبت فيها رب الحرفة أنه قام بواجب الرقابة بما تقتضيه العناية اللازمة، واتخذ الاحتياطات المعقولة ليحول دون وقوع الضرر وكذلك في الحالة التي يتمكن فيها من نفي العلاقة السببية بين الخطأ المفترض في جانبه وبين العمل الضار الذي ارتكبه المتعلم، كأن يثبت أن العمل الضار قد ارتكبه المتعلم نتيجة إصابته بعارض جنون مفاجئ لم يكن في الوسع توقعه أو تلافيه، أو في الحالة التي تنتفي بها مسؤولية المتعلم نفسه كأن يكون الضرر قد وقع نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ المضرور أو خطأ الغير.
الفرع الثالث : مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه
نص الفصل 85 على أن “المخدومين ومن يكلفون غيرهم برعاية مصالحهم يسألون عن الضرر الذي يحدثه خدامهم ومأمورهم في أداء الوظائف التي شغلوهم فيها”. وبعبارة أخرى يسأل المتبوع عن الضرر الذي يحدثه تابعه في أداء الوظيفة التي كلفه بها.
وتتميز مسؤولية المتبوع، من حيث أنها مقررة بقرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس، وهذا يعني أن المتبوع لا يستطيع درئ المسؤولية عن نفسه عن طريق إقامة الدليل على انه قام بواجب الإشراف والرقابة على أحسن وجه، وأن أي خطأ لا ينسب إليه. ولكنه لا يعني أن مسؤولية المتبوع لا يمكن دفعها أبدا. فالمتبوع يستطيع دفع المسؤولية عنه إذا هو أثبت أن الضرر الذي أصاب المضرور إنما كان لسبب أجنبي لا يد للتابع فيه، كما لو كان وقع نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو نتيجة خطأ المضرور نفسه. ففي مثل هذه الحالة تنتفي مسؤولية التابع وانتفاؤها يمنع بالضرورة ترتيب أي مسؤولية في جانب المتبوع.
أساس مسؤولية المتبوع : هو الخطأ المفترض في جانب المتبوع في رقابة وتوجيه التابع.
شروط مسؤولية المتبوع : يشترط كي تتحقق مسؤولية المتبوع توافر شرطين : الشرط الأول : قيام علاقة التبعية بين شخص المتبوع وشخص التابع / الشرط الثاني: صدور خطأ من التابع في حال أداء وظيفته.
الشرط الأول : قيام علاقة تبعية
لا بد لترتب المسؤولية هنا من وجود علاقة تبعية بين شخصين بحيث يكون أحدهما تابعا للآخر، ويتحقق ذلك إذا كان للمتبوع على تابعه سلطة فعلية في الرقابة والتوجيه.
يجب أن تتوافر للمتبوع سلطة فعلية على تابعه. ولا يقتضي ذلك أن تكون هذه السلطة بموجب عقد. كما لا يشترط أن يكون المتبوع قد اختار تابعه، إذ أن علاقة التبعية قد تقوم رغم كون التابع فرض على المتبوع. كما لا يشترط كذلك أن يكون استخدام التابع مقابل بدل، لأن العبرة للعلاقة القائمة بين الفريقين لجهة تنفيذ العمل، لا للأجرة التي يستحقها التابع. وقد تقوم رابطة التبعية بين الرجل وزوجته، وبين الأب وابنه وبين الصديق وصديقه كما لو كلف صاحب السيارة زوجته أو ابنه أو صديقه بقيادتها.
ثم يجب أن تتناول هذه السلطة الفعلية رقابة التابع وتوجيهه: ويراد بذلك أن تكون للمتبوع سلطة إصدار الأوامر للتباع لتوجيهه في عمله وسلطة الرقابة على تنفيذ هذه الأوامر. ومن تم يعتبر تابعا الخادم في علاقته بمخدومه والسائق في علاقته بصاحب السيارة والعامل في علاقته بمشغله والمستخدم في علاقته بصاحب العمل. والممرضة في علاقتها بالطبيب الذي تعمل في خدمته.
ولا يشترط أن يباشر المتبوع على التابع حق الرقابة والتوجيه من الناحية الفنية، بل يكفي أن يمارس هذه الرقابة وهذا التوجيه من الناحية الإدارية، فصاحب السيارة ولو كان يجهل القيادة يعتبر متبوعا للسائق، وصاحب المستشفى ولو لم يكن هو نفسه الطبيب يعتبر متبوعا بالنسبة إلى الأطباء الذين يعملون في المستشفى لحسابه.
ولما كان قيام الرابطة منوطا بوجود حق الرقابة والتوجيه، فإن انتفاء هذ الحق يفضي بالضرورة إلى انتفاء تلك الرابطة هكذا لا يعتبر تابعا الطبيب الذي يعمل بمستشفى لحسابه بالنسبة إلى إدارة المستشفى. ولا الطبيب المكلف بمعالجة العمال بالنسبة إلى صاحب المصنع. وكذلك لا يعتبر الشريك والوكيل والفضولي تابعا للشركة أو للموكل أو لرب العمل، ولا تقع مسؤولية أعمالهم غير المشروعة على هؤلاء.
المتبوع الأصلي والمتبوع العرضي : قد يكون الشخص تابعا لشخص ويوضع بإرادة المتبوع تحت تصرف شخص آخر. عندئذ يوجد متبوعان :متبوع أصلي ومتبوع عرضي، فأي متبوع تقع عليه مسؤولية أعمال التابع ؟
القاعدة أن المسؤولية منوطة بحق الرقابة والتوجيه. فحيث يكون هذا الحق تكون المسؤولية. وعليه يبقى المتبوع الأصلي مسؤولا عن الخطأ الذي يصدر من التابع أثناء قيامه بالعمل لدى المتبوع العرضي، إذا ظل التابع خاضعا لأوامر متبوعه الأصلي كما لو أجر شخص سيارته لآخر مع سائقها لمدة قصيرة، محتفظا بسلطته على هذا السائق الذي بقي يتلقى منه التوجيه وبدل أجرته.
ويصبح المتبوع العرضي مسؤولا عن خطأ التابع، إذا تبين أن المتبوع الأصلي قد نزل عن سلطته في الرقابة والتوجيه لمصلحة المتبوع العرضي.
ويعود لقاضي الموضوع في ضوء ظروف كل قضية تقدير ما إذا كانت السلطة في رقابة وتوجيه التابع قد بقيت للمتبوع الأصلي أم انتقلت للمتبوع العرضي.
الشرط الثاني : صدور الخطأ من التابع في حال أداء وظيفته
لا يسأل المتبوع عن كل خطأ يصدر من التابع، وإنما يسأل عن الخطأ الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمل الذي يقوم به التابع لحساب المتبوع، وعليه يجب كي تتحقق مسؤولية المتبوع أن يصدر خطأ من التابع، وأن يكون هذا الخطأ وقع في حال أداء الوظيفة.
1 يجب أن يصدر خطأ من التابع : ذلك أن مسؤولية المتبوع مسؤولية تبعية. فهي لا تقوم إلا إذا تحققت مسؤولية التابع. زمن تم فإنه يشترط لكي تتحقق مسؤولية المتبوع، أن يقع من التابع خطأ يسبب ضررا للغير وبعبارة أخرى لا بد حتى تتحقق مسؤولية المتبوع أن تتحقق اولا مسؤولية التابع.
2 يجب أن يكون خطأ التابع قد وقع وهو يؤدي الوظيفة المعهود بها إليه : ذلك أن أساس مسؤولية المتبوع عن تابعه قائمة على ما للأول من سلطة فعلية على الثاني في الرقابة والتوجيه أثناء تأدية الخدمة، فلا بد أن تربط هذه المسؤولية بصلة تقوم بين الفعل الضار والوظيفة المكلف بها. وعليه لا مسؤولية على المتبوع عندما يكون عمل التابع خارجا عن دائرة الخدمة التي يقوم بها من حيث الزمان أو المكان المعينين للعمل. كما لو وقع الحادث الذي أدى إلى الإضرار بالغير في غير وقت العمل أو خارج المصنع، أي في الطريق بعد انقضاء ساعات العمل، أو في أيام العطلة.
وتجدر الإشارة إلى أن الاجتهاد القضائي ورغم اقتصار النص على الخطأ الذي يرتكبه التابع في حال تأدية الوظيفة، فإنه لم يقف عند الحدود التي يفرضها ظاهر النص بل اعتبر المتبوع مسؤولا أيضا عن الخطأ الذي يرتكبه التابع بسبب الوظيفة. وهذا الأخير يتمثل في الخطأ الذي يرتكبه التابع وهو لا يؤدي عملا من أعمال وظيفته ولكن تربطه مع ذلك بالوظيفة علاقة سببية وثيقة بحيث لولا الوظيفة لما استطاع التابع ارتكاب الخطأ، كأن يرى الخادم سيده يتضارب مع شخص آخر فيهب لمساعدته ويضرب الشخص الآخر ضربا يفضي إلى موته حيث يسأل المخدم عن خطأ خادمه.
او كان يقدم سائق سيارة وهو في خدمة صاحبها على استعمالها لمنفعته الشخصية بذهابه لنزهة أو لغرض خاص، حيث يسأل صاحب السيارة عن خطأ السائق في حالة ما إذا صدم هذا الأخير أحد الأشخاص وسبب له ضرر.