المسؤولية التقصيرية

يقدم لكم موقع أنفاس قانونية : موضوع بعنوان ” المسؤولية التقصيرية”


تعتبر المسؤولية المدنية من أهم الموضوعات القانونية التي اهتم بها الفقه والقضاء منذ بداية القرن العشرين، ولا زال هذا الاهتمام في تصاعد مستمر نتيجة تجدد وتفاقم المخاطر التي يتسبب فيها الإنسان بفعله أو بفعل الأشياء التي في حراسته. ويقصد بالمسؤولية المدنية المؤاخذة عن الأخطاء التي تضر بالغير وذلك بإلزام المخطئ بأداء التعويض للطرف المضرور وفقا للطريقة والحجم الذين يحددهما القانون، وهذه المسؤولية على نوعين :  مسؤولية عقدية، ومسؤولية تقصيرية، فالمسؤولية تكون عقدية إذا كان الالتزام الذي أخل به مصدره العقد. وتكون المسؤولية تقصيرية إذا كان الالتزام الذي أخل به مصدره العمل غير المشروع. وهذا الأخير هو غير العمل الجرمي الذي تترتب عليه المسؤولية الجنائية. ففي العمل الجرمي يلحق الضرر بالمجتمع كله ؛ أم في العمل غير المشروع فالضرر يصيب فردا من هذا المجتمع.  

وقد خص المشرع المغربي للمسؤولية التقصيرية الفصول من 77 إلى 106 من قانون الالتزامات والعقود، حيث أقر نظرية المسؤولية الشخصية المبنية على الخطأ الواجب الإثبات، ثم تناول حالات من المسؤولية الموضوعية التي لا تستلزم إثبات الخطأ بل تقوم على خطأ مفروض وجوده. وهذه الحالات من المسؤولية الموضوعية هي حالات المسؤولية عن فعل الغير، باستثناء حالة مسؤولية  المعلمين عن الأضرار الحاصلة من التلاميذ، وحالات المسؤولية الناشئة عن الاشياء والحيوان.

وبالإضافة إلى ما ذكر عالج المشرع المغربي ؛ في البحث الذي خصه للالتزامات التي تنشأ عن الجرائم وأشباه الجرائم حالات خاصة من المسؤولية التقصيرية هي : مسؤولية موظفي الدولة والبلديات ومسؤولية الدولة والبلديات ؛ وكذا مسؤولية القاضي الذي يخل بمقتضيات منصبه ؛ فضلا عن مسؤولية حائز الشيء.

تعتبر المسؤولية التقصيرية عن العمل الشخصي من أهم مظاهر المسؤولية المدنية على الإطلاق، فالتعايش الاجتماعي يفرض على الافراد احترام الضوابط التي يقوم عليها هذا التعايش.

المسؤولية التقصيرية

                         الفصل الأول :  المسؤولية عن العمل الشخصي

تعتبر المسؤولية التقصيرية عن العمل الشخصي من أهم مظاهر المسؤولية المدنية على الإطلاق، فالتعايش الاجتماعي يفرض على الافراد احترام الضوابط التي يقوم عليها هذا التعايش، كاحترام حقوق الغير وعدم التعدي على ممتلكاتهم، وأي تعدي على هذا النظام إلا ويحمل صاحبه تبعات هذا الإخلال. وللقيام المسؤولية عن الفعل الشخصي يلزم توافر ثلاثة شروط أساسية وهي الخطأ والضرر والعلاقة السببية  بينهما (الفرع الأول) وإذا توافرت هذه الشروط ترتب على هذا النوع من المسؤولية مجموعة من الآثار (الفرع الثاني).

                     الفرع الأول :  شروط المسؤولية عن العمل الشخصي

نص الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود على أن ” كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر إذا تبث أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر “. فمن هذا النص يتبين أن المسؤولية عن العمل الشخصي تتطلب توافر ثلاث شروط : ارتكاب شخص خطأ، ونشوء ضرر عن هذا الخطأ لشخص آخر، وقيام علاقة سببية بين الخطأ والضرر.

                               المبحث الأول :  الخطـــــــــــــــــــــــــــــــــأ

يقصد بالخطأ في المسؤولية التقصيرية إخلال الشخص بالتزام قانوني مع إدراكه لهذا الإخلال، والخطأ بهذا المعنى على أنواع : 

فهو من جهة إما أن يكون خطأ عمدا، ويسمى اصطلاحا جرما، وإما أن يكون خطأ بإهمال، ويسمى عندها شبه جرم. فالخطأ العمد هو الذي يقع بقصد الإضرار بالغير كأن يأخذ أحدا ساعة آخر ويرمي بها أرضا فيكسرها، وقد أشار المشرع إلى الخطأ العمد في الفصل 77 حينما تكلم عن الفعل الضار الذي “يرتكبه الإنسان عن بينة واختيار فيحدث ضررا للغير “، والخطأ بإهمال هو الذي يقع بدون قصد الإضرار، كأن تهمل الدولة إصلاح انهيار وقع في طريق عمومية ولا تنبه إليه فتسقط سيارة في مكان الانهيار وتلحق بها أضرار. وقد أشار المشرع إلى الخطأ بإهمال في الفصل 78 حينما عرض للخطأ الذي يرتكب من غير قصد إحداث الضرر.

وسواء كان الخطأ عمدا أم كان خطأ بإهمال فإن المسؤولية تترتب على مرتكبه في الحالتين وإن كان القاضي يميل من الناحية العملية إلى زيادة التعويض في حالة الخطأ العمد عنه في حالة الخطأ بإهمال.

والخطأ من جهة ثانية إما أن يكون خطأ إيجابيا وإما أن يكون خطأ سلبيا، فالخطأ الإيجابي هو الذي يكون فعل المخطئ فيه عملا إيجابيا أو حسب ما ورد عليه النص في الفصل 78 هو الذي يقوم على “فعل ما كان ينبغي الامتناع عنه” كأن يصدم سائق السيارة أحد المارة فيصيبه برضوض وجروح. أما الخطأ السلبي فهو الذي يكون فعل المخطئ فيه عملا سلبيا، أو حسب تعبير المشرع في الفصل 78 هو الذي يقوم على “ترك ما كان يجب عمله”، كأن يتوانى  المالك عن إصلاح حائط له فينهار الحائط ويتلف مزروعات الجار.

والخطأ من جهة ثالثة إما أن يكون خطأ جسيما وإما أن يكون خطأ يسيرا، فالخطأ الجسيم هو الذي لا يرتكبه إلا شخص غبي، مثال ذلك أن يطلق الصياد نار بندقيته باتجاه مكان آهل بالسكان فيصيب أحدهم بجروح. والخطأ اليسير هو الذي لا يرتكبه شخص متوسط الفطنة والذكاء، مثل ذلك أن يهمل المالك صيانة حائط حديقته فينهار الحائط ويتلف مزروعات الجار ، ويستوي الخطأ الجسيم والخطأ اليسير من حيث استتباع المسؤولية وإن كان القضاء هنا كما في حالتي الجرم وشبه الجرم يميل من الناحية العملية إلى زيادة التعويض في حالة الخطأ الجسيم عنه في حالة الخطأ اليسير. ولا سيما ان المشرع المغربي أوصى القاضي عندم يجنح إلى تقدير التعويض أن يراعي في ذلك ما إذا كان المسؤول ارتكب خطأ عاديا أو تدليسا (الفقرة الثانية من الفصل 98 من ق ل ع).

                                       المطلب الأول :  أركان الخطأ 

 إن مفهوم الخطأ كما يتبين من التعريف الذي أوردناه يقوم على ركنين : الركن الأول مادي، وهو الفعل الذي ينطوي على الإخلال بالتزام قانوني، ويسمى اصطلاحا “التعدي”، والركن الثاني معنوي، وهو كون الفعل المخل بالالتزام القانوني قد ارتكب ممن يدرك أن عمله ينطوي على الإضرار بالغير، ويسمى اصطلاحا “الإدراك ” أو “التمييز” وسنبحث فسي كل من هذين الركنين ثم نبين الحالات التي لا يكون فيها الخطأ سببا للمسؤولية.

                           الفقرة الأولى : الركن المادي للخطأ (التعدي )

قلنا إن التعدي هو الإخلال بالتزام قانوني ويمكن أن يتخذ هذا الإخلال إحدى صور ثلاث :   

الصورة الأولى : تتجلى في مخالفة نص

حيث إنه إذا كان القانون قد نص على التزام محدد، فالإخلال بهذا الالتزام يعتبر تعديا يوجب المسؤولية. ويقصد بالنص القانوني هنا القانون الصادر عن السلطة التشريعية والانظمة الصادرة عن السلطة التنفيذية بشكل ظهير أو قرار وقد خص المشرع بالذكر في الفصلين 83 و84 بعض الالتزامات اعتبر الإخلال بها خطأ يوجب المسؤولية، فالفصل 83 نص على أن مجرد النصيحة أو التوصية تترتب عليها مسؤولية صاحبها في الحالات التالية :  إذا أعطى النصيحة قصد خداع الطرف الآخر  أو إذا كان من أعطى النصيحة، بسبب تدخله في المعاملة بحكم وظيفته، قد ارتكب خطأ جسيما أي خطأ ما كان ينبغي أن يرتكبه شخص في مركزه، ونتج عن هذا الخطأ ضرر للطرف الآخر. وكذا إذا كان من أعطى النصيحة قد ضمن نتيجة المعاملة.

والفصل 84 رتب المسؤولية على المنافسة غير المشروعة، وعددت على سبيل المثال بعض الوقائع التي يمكن اعتبارها من قبيل المنافسة غير المشروعة، كاستعمال اسماء علامة تجارية تماثل تقريبا ما هو ثابت قانونا لمؤسسة أو مصنع معروف من قبل، أو لبلد يتمتع بشهرة عامة، وذلك بكيفية من شأنها أن تجر الجمهور إلى الغلط في شخصية الصانع، أو في مصدر المنتوج.

الصورة الثانية : فتتجلى في مخالفة التزامات قانونية غير محددة في نصوص  

حيث إن هناك التزامات كثيرة لم يحددها المشرع في نصوص، وإنما هي من قبيل الواجبات العامة التي تفرض على الإنسان احترام حقوق الغير والامتناع عن إيذائه، والتي لا سبيل لحصرها في نصوص. ومعيار السلوك الذي يجب أن يسلكه الشخص  بحيث إذا انحرف عن هذا السلوك اعتبر متعديا، هو المعيار الموضوعي الذي ينظر فيه إلى سلوك شخص مجرد، هو سلوك الشخص العادي الذي يمثل جمهور الناس، وهو سلوك يقوم على الدرجة الوسطى من الفطنة والتبصر، وليس المقصود بالشخص العادي أي شخص كان، بل هو شخص من نفس طائفة المتعدي، وفي نفس ظروفه الخارجية لا الداخلية.

والمقصود بقولنا من نفس طائفة المتعدي أننا إذا كنا بصدد انحراف وقع من سائق سيارة مثلا فإننا نبحث في طائفة السائقين عن السائق العادي ونقارن مسلك السائق الذي وقع منه الانحراف بمسلك ذلك السائق العادي. فإن كان مسلك السائق المتعدي كمسلك السائق العادي من حيث اليقظة والانتباه لا يعتبر مخطأ أما إذا كان دون ذلك فإنه يعتبر مخطأ.

ومعنى أن يكون المتعدي في مثل ظروف الشخص العادي الخارجية دون الداخلية، أنه لا يعتد بالظروف الداخلية لمن وقع منه الانحراف، من حيث كونه مثلا حاد المزاج، ضعيف البصر، أو بليد التفكير…

أما الظروف الخارجية لمن وقع منه التعدي، فيجب أن ننظر إليها عند مقارنة مسلكه بمسلك الشخص العادي، فإذا كان السائق الذي وقع منه التعدي يسوق ليلا، وجب أن ننظر إلى السائق في مثل هذا الظرف الزماني، وكذلك إذا كان السائق المتعدي يسوق السيارة في جو ممطر فوق أرض مبتلة، وجب أن ينظر إلى السائق العادي في مثل ذلك الظرف المكاني، وهو الأرض المبتلة فإن ظهر مسلكه موافقا لمسلك السائق العادي في مثل ذلك الظرف لا يكون مخطأ، أما إذا كان سلوكه دون ذلك اعتبر مخطأ.

وعلى ذلك يجب لتقدير ما إذا كان انحراف ما يشكل خطأ أم لا، أن نضع الشخص الذي وقع منه الانحراف في الطائفة التي ينتمي إليها ثم نبحث في هذه الطائفة عن نموذج للشخص العادي ثم نقارن سلوك المنحرف بسلوك ذلك الشخص العادي معتدين بالظروف الخارجية التي رافقت وقوع الانحراف دون الظروف الداخلية.

الصورة الثالثة :  ممارسة الحق ممارسة تعسفية

الأصل أن الشخص إذا مارس حقه وأدت ممارسته لهذا الحق إلى الإضرار بالغير، أنه لا يسأل عن الضرر الحاصل، لأن المسؤولية التقصيرية تتطلب أن يكون الضرر نجم عن خطأ، والخطأ لا يتوفر في الحالة التي يستعمل فيها الانسان حقا له دون أن يجاوز الحدود المرسومة لهذا الحق.

وهذا ما أشار إليه المشرع المغربي في مطلع الفصل 94 قانون الالتزامات والعقود إذ قال: ” لا محل للمسؤولية المدنية إذا فعل شخص بغير قصد الإضرار، ما كان له الحق في فعله “.

ولكن على سبيل الاستثناء، يمكن أن يقع استعمال الحق على نحو يكون فيه الشخص مخطئا. وهذا ما يسمى إساءة استعمال الحق أو التعسف في استعمال الحق.

و يعتبر الشخص متعسفا في استعمال حقه في الحالات التالية : 

أولا :  إذا اكن لم يقصد من وراء استعمال حقه سوى الإضرار بالغير، فالحقوق يجب ألا تستعمل إلا لجلب النفع أو دفع الضرر، فإذا هي استخدمت لتكون معاول للهدم والبغي وإلحاق الأذى بالغير، أصبحت شرا تلزم محاربته. لذلك فإن من يمارس حق ويتعمد الإضرار بالغير، يكون مسؤولا عن هذا الضرر. وقد أقر المشرع المغربي ترتب المسؤولية على هذا النوع من التعسف  في الفصل 94. فهو إذ نفى المسؤولية المدنية في الحالة التي “يفعل فيها الشخص بغير قصد الإضرار ما كان له الحق في فعله” يكون عن طريق الاستنتاج بالمفهوم المخالف أقر بصورة واضحة ترتب المسؤولية على من يستعمل حقه بقصد الاضرار بالغير.

ومن الأمثلة على هذا النوع من التعسف إقامة المالك فوق منزله مدخنة قصد الإضرار بجاره وحجب النور عنه، أو إحداث المالك ضوضاء قصد تنفير الحيوانات ومنع الغير من الصيد في أرض مجاورة.

ثانيا :  إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها صاحب الحق قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها. وهذا ما قررته الفقرة الثانية من الفصل 94 بقوله :  ” إذا كان من شأن مباشرة الحق أن تؤدي إلى إلحاق ضرر فادح بالغير، وكان من الممكن تجنب هذا الضرر أو إزالته من غير أذى جسيم لصاحب الحق، فإن المسؤولية المدنية تقوم إذا لم يجر الشخص ما كان يلزم لمنعه أو لإيقافه “.

مثال ذلك أن يعمد مالك حائط إلى هدمه مختارا، دون عذر قوي، إن كان هذا الهدم يضر بالجار الذي يستتر ملكه بالحائط. مثال ذلك أيضا أن يطالب مالك الأرض التي تجاوز عليها جاره بالبناء عن حسن نية تجاوزا بسيطا، بهدم البناء واسترداد الأرض المتجاوز عليها. فالقضاء في هذه الحالة ومنعا للتعسف يجنح إلى استبعاد الحكم بالهدم والاستعاضة عنه بالزام الباني حسن النية بدفع ثمن الجزء المتجاوز عليه، وإلحاق هذا الجزء بالبناء، وذلك لأن تفاهة مقدار التجاوز تجعل البون شاسعا، لو تم الهدم، بين ضرر المتجاوز وفائدة المتجاوز عليه.

ثالثا: إذا كان صاحب الحق قد تجاوز في ممارسة حقه الحدود المألوفة. وقد أقر المشرع المغربي هذا النوع من التعسف في الفصل 92. ففي هذه الفصل منع على الجيران أن “يطالبوا بإزالة الأضرار الناشئة عن الالتزامات العادية للجوار، كالدخان الذي يتسرب من المداخن وغيره من المضار التي لا يمكن تجنبها والتي لا تتجاوز الحد المألوف”. وهو إذ منع عليهم ذلك يكون قد سمح لهم صراحة بأن يطلبوا إزالة الأضرار إذا تجاوزت الحدود المألوفة. وتطبيقا لهذا المبدأ منح الفصل 91 للجيران في مواجهة أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة، الحق في أن يطلبوا إما إزالة هذه المحلات، وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلمون منها، وأوضح المشرع أن الترخيص الصادر من السلطات المختصة لا يحول دون مباشرة هذا الحق.

  الفقرة الثانية : الركن المعنوي في الخطأ (الإدراك أو التمييز )

يجب لقيام الخطأ أن يكون من ارتكب التعدي مدركا لهذا التعدي، أي قادرا على التمييز بين الخير والشر، والنفع والضرر، فيدرك أن تعديه يلحق ضررا بالغير. فالتمييز إذن هو مناط المسؤولية التقصيرية :  فهي تتحقق إذا وجد وتنعدم إذا فقد. وق ل ع نص على ذلك بوضوح في الفصل 77 حيث اشترط لترتب المسؤولية عن الأفعال التي تصدر عن الإنسان من غير أن يسمح له بها القانون أن تكون هذه الأفعال قد ارتكبت “عن بينة واختيار ” وكذلك في الفصلين 96 و 97 حيث أعلن أن القاصر وذوي العاهات لا يسألون عن الأضرار الناتجة عن أفعالهم إلا “إذا توافرت لهم من التمييز الدرجة اللازمة لتقدير نتائج أعمالهم”.

فالقاعدة إذن أن الشخص غير المميز لا يكون مسؤولا عن أعماله الضارة لأن الإدراك عنصر ضروري لقيام الخطأ، وعديم التمييز لا إدراك عنده فلا يمكن نسبة الخطأ إليه. وتنطبق هذه القاعدة على كل شخص غير مميز.

فهي تتطبق على الصبي غير المميز أي من لم يتم الثانية عشرة من عمره. وعلى هذا قرر الفصل 96 أن “القاصر عديم التمييز لا يسأل عن الضرر الحاصل بفعله”.

وهي تنطبق على المجنون ما لم يثبت أن العمل الضار قد ارتكب والمجنون في حالة فترة إفاقة. وهذا ما أوضحه الفصل 96 إذ سوت بين فاقد العقل والصغير غير المميز في الحكم. من حيث انتفاء المسؤولية التقصيرية “بالنسبة إلى الأفعال الحاصلة في حالة جنونه “. فإذا كان فاقد العقل محجورا عليه، اعتبر غير مسؤول ما لم يقم المضرور الدليل على أن العمل الضار ارتكبه المجنون وهو في فترة إفاقة. وإذا لم يكن محجورا عليه، فلا تنعدم مسؤوليته إلا إذا أقام هو أو من يمثله  الدليل على وقوع الفعل الضار في حالة جنونه، أما الصم البكم وغيرهم من ذوي العاهات فيسألون مبدئيا عن الأضرار الناجمة عن أخطائهم، لتوافر الإدراك عندهم، ما لم يقم الدليل على أنهم لا يتمتعون بالدرجة اللازمة من التمييز لتقدير نتائج أعمالهم (الفصل 97).

وقد ينعدم التمييز لغير الصغر والجنون كما في حالة مرض النوم والإصابة بالصرع والإدمان على السكر. على أنه في مثل هذه الحالات يشترط لانتفاء مسؤولية الشخص ألا يكون فقدان التمييز راجعا إلى خطأ منه. فمثلا لو أن فقدان الوعي كان سببه المخدر فإنه يفترض  أن إقدام الشخص على تعاطي المخدر كان بخطأ منه فيكون مسؤولا حتى يقيم هو الدليل على انتفاء خطأه كأن يثبت مثلا أنه كان مضطرا لذلك لباعث مشروع كالعلاج. وبهذا المعنى ورد في الفصل 93 أن “السكر إذا كان اختياريا، لا يحول دون المسؤولية المدنية في الالتزامات الناشئة عن الجرائم و أشباه الجرائم. ولا مسؤولية مدنية إذا كان السكر غير اختياري وعلى المتابع إثبات هذه الواقعة “.

ملاحظة هامة :

 لئن كان المضرور من فعل عديم التمييز يمتنع عليه مقاضاة عديم التمييز لانتفاء مسؤوليته، فإن باستطاعته الرجوع على من تجب عليه رقابة عديم التمييز، سواء أكانت هذه الر قابة واجبة بمقتضى القانون (كرقابة الأب أو الأم لأبنائهما القصر المقيمين معهما أو رقابة الأب أو الأم أو غيرهما من الأقارب أو الأزواج للمجانين وغيرهم من مختلي العقل المقيمين معهم)، أم كانت واجبة بمقتضى الاتفاق (كرقابة من يتحمل بمقتضى عقد برعاية أو برقابة المجانين وغيره من مختلي العقل)، ذلك أن الرقيب يعتبر في هذه الحالة مسؤولا عن خطئه في مراقبة عديم التمييز.

الفقرة الثالثة : الحالات التي لا يكون فيها الخطأ سببا للمسؤولية

توجد حالات يتوفر فيها الخطأ ومع ذلك لا تترتب على هذا الخطأ أي مسؤولية. ويتحقق ذلك في ثلاث حالات :  الحالة الأولى :  إعطاء بيانات غير صحيحة  عن حسن نية ودون علم بعدم صحتها، الحالة الثانية : مجرد النصيحة أو التوصية في غير الحالات الوارد ذكرها في الفصل 83، الحالة الثالثة :  الدفـــــــــــــــاع الشرعي.

وسنعرض تباعا لمختلف هذه الحالات :

 الحالة الأولى : إعطاء بيانات غير صحيحة عن حسن نية ودون علم بعدم صحتها

لقد نص على هذه الحالة الفصل 82 بقوله :  “من يعط بحسن نية ومن غير خطأ جسيم أو تهور بالغ من جانبه، بيانات وهو يجهل عدم صحتها، لا يتحمل أية مسؤولية اتجاه الشخص الذي أعطيت له :

 1 إذا كانت له أو لمن تلقى البيانات مصلحة مشروعة في الحصول عليها.

2 إذا وجب عليه بسبب معاملاته أو بمقتضى التزام قانوني، أن ينقل البيانات التي وصلت إلى علمه “.

فمن هذا النص يتبين أن من كان ملزما بنقل بيانات وصلت إلى علمه (كما هو الحال بالنسبة للوكيل الملزم بموافاة موكله بالمعلومات الضرورية عما وصل إليه في تنفيذ الوكالة) أو من أعطى بيانات له  مصلحة مشروعة في الحصول عليها (كما هو الحال بالنسبة لطبيب يعالج مريضا) أو في تلقيها (كما هو الحال بالنسبة لأهل مريض يعالجه طبيب) لا يتحمل مسؤولية البيانات غير الصحيحة التي أعطاها في مثل هذه الحالات تجاه الشخص الذي أعطيت له ولو أحدثت له ضرر شريطة :   أن يكون من أعطى البيانات حسن النية  ؛ وأن لا يكون قد ارتكب خطأ جسيما أو رعونة بالغة. ؛ وأن يكون أعطاها وهو يجهل عدم صحتها.

الحالة الثانية : مجرد النصيحة أو التوصية في غير الحالات التي نص عليها الفصل 83 :   

 إن النصيحة أو التوصية إذا أحدثت ضررا لمن أسديت له رتبت المسؤولية على من أسداها في الحالات التالية :  إذا أعطى النصيحة قصد خداع الطرف الآخر ؛

  إذا كان بسبب تدخله في المعاملة بحكم وظيفته، قد ارتكب خطأ جسيما أي خطأ ما كان ينبغي أن يرتكبه شخص في مركزه، ونتج عن هذا الخطأ ضرر للطرف الآخر. ؛  إذا ضمن نتيجة المعاملة.  

اما في غير هذه الحالات الوارد عليها النص حصرا، فإن مجرد النصيحة أو التوصية لا ترتب المسؤولية على صاحبها.

الحالة الثالثة : الدفاع الشرعي   

نص الفصل 95 على انه ” لا محل للمسؤولية المدنية في حالة الدفاع الشرعي”، وأوضحت أن حالة الدفاع الشرعي هي “تلك التي يجبر فيها الشخص على العمل لدفع اعتداء حال غير مشروع موجه لنفسه أو لماله أو لنفس الغير أو ماله”.  فمن يحدث ضررا للغير وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله لا يكون مسؤولا عن الضرر الذي يلحقه بالغير. على أنه لا بد حتى يتحقق ذلك، من توفر الشرطيين التاليين :   

1 يجب أن يكون هناك اعتداء حال لا سبيل إلى دفعه إلا بإيقاع الأذى بالمعتدي. ويستوي في ذلك أن يكون الاعتداء موجها لنفس المدافع أو ماله، أو لنفس الغير أو ماله. ممن لهم من المكانة والاعتزاز في نفس المدافع ما يجعله يقوم بالدفاع عنهم.

2 يجب أن يكون الاعتداء الموجه للمدافع عملا غير مشروع. أما إذا كان مشروعا فلا يجوز دفعه. فالمجرم الذي يطارده الجندي للقبض عليه. لا يحق له مقاومة الجندي بحجة الدفاع الشرعي. فإذا حصلت مثل هذه المقاومة وترتب عليها ضرر وجبت المسؤولية.

                            المبحث الثاني :   الضــــــــــــــــــــــــــــرر

لا يكفي لقيام المسؤولية التقصيرية وقوع الخطأ، بل  لا بد أ يترتب على هذا الخطأ ضرر، وإلا انتفت مصلحة المدعي في ممارسة دعوى المسؤولية. لذا علق المشرع في الفصلين 77 و 78 تحقق مسؤولية مرتكب العمل الضار على وقوع ضرر للغير.

 وعليه، إذا ما انتفى الضرر، أنتفت المسؤولية ولو كان الخطأ مؤكدا. والمضرور هو الذي يتحمل عبء إثبات الضرر، وله في سبيل ذلك استعمال جميع طرق الإثبات لأننا بصدد إقامة الدليل على واقعة مادية، ثم إن التثبت من وقوع الضرر أمر يستقل بتقديره قاضي الموضوع ولا يدخل تحت رقابة محكمة النقض.

والضرر قد يكون ماديا فيصيب الانسان من الناحية المالية، وقد يكون أدبيا أو معنويا فيصيب الانسان في نواح معنوية تتعلق بشرفه أو سمعته أو كرامته أو شعوره أو عواطفه، والضرر بنوعيه المادي والمعنوي يعطي الحق في التعويض على ما نص عليه المشرع صراحة في الفصلين 77 78. فلنبحث في مطلب أول في الضرر المادي ثم في مطلب ثان في الضرر المعنوي.

                                  المطلب الأول :   في الضرر المادي

الضرر المادي هو الذي يصيب الانسان إما في ذمته المالية كأن يتلف شخص متاعا أو مزروعات لآخر أو يلحق عيبا بمنقول أو عقارا لغيره، وإما في جسمه كجروح أو رضوض يسببها سائق السيارة لأحد المارة او كنقل شخص مصاب بمرض من الأمراض السارية عدوى هذا المرض إلى شخص سليم. و لا بد في الضرر المادي حتى يصلح أساسا للتعويض من توافر الشرطيين التاليين :   

الشرط الأول :  يجب أن يصيب الضرر حقا أو مصلحة مالية للمضرور

  فقد يصيب الضرر حق للمضرور كالاعتداء على حياة الشخص، أو الاعتداء على سلامة الجسم إذا كان من شأنه أن ينال من قدرة الشخص على الكسب أو يكبده نفقة في العلاج، أو الاعتداء على أموال الشخص كحرق منزله أو اتلاف أثاثه، أو بصورة أعم التعرض  لحق من حقوقه العينية أو الشخصية أو الحد من المزايا المالية التي تتوفر للشخص بموجب هذه الحقوق.

ويحصل أحيانا أن يصيب الضرر شخصا آخر نتيجة لإصابة المضرور. فالقتل يحدث ضررا للمقتول إذ يحرمه من الحياة وهو أهم ما يحرص عليه الانسان، والتعويض عن الضرر الذي أصاب المقتول بحرمانه من الاستمرار في الحياة يدخل في تركته ويوزع حسب الفريضة الشرعية دون ما حاجة لإثبات وقوع الضرر على الورثة لأن الضرر هنا وقع على الموروث وليس الورثة. ثم إن القتل يلحق ضررا بأولاد المقتول وزوجته إذ يحرمهم من الشخص الذي يعولهم. فهؤلاء يصابون في حقهم في النفقة وهذا  ضرر مستقل عن الضرر الذي أصاب المقتول نفسه ومن حقهم المطالبة بالتعويض عنه.

وقد يصيب الضرر مجرد مصلحة مالية للمضرور. فلو أن شخصا كان يعول قريبا لا تجب نفقته عليه، ثم قتل هذا الشخص، فإن القريب يضار من ذلك ليس في حق له إذ لا تجب نفقته على المقتول، بل في مصلحة مالية. فإذا أثبت أن المقتول كان يعوله على نحو مستمر وأن فرصة الاستمرار في المستقبل كانت محققة قضي له بالتعويض، أما المصلحة المحتملة فهدرها لا يصلح أساسا للحكم بالتعويض.

ويشترط في المصلحة التي تمس أن تكون مصلحة مشروعة، وإلا فلا يجوز الحكم بالتعويض فهكذا مثلا لا يسوغ للشخص الذي قبضت عليه قوى الامن لجريمة ارتكبها، أن يدعي أنه أصابه ضرر في حريته وفي مصالحه المالية، وأن يطالب بناء على ذلك بتعويض من الشخص الذي أبلغ عنه ومكن قوى الأمن من القبض عليه. فلسنا هنا إزاء مصلحة مشروعة ما دام القانون نفسه يأمر بالقبض على المجرم.

الشرط الثاني :  يجب أن يكون الضرر محققا

 والضرر يعتبر محققا إذا كان حالا  أي وقع فعلا كأن يكون المضرور قد مات أو أصابه جرح في جسمه أو لحق تلف في ماله. وكذلك يعتبر الضرر محققا إذا كان من قبيل الضرر المستقبل، أي الضرر الذي وإن كان لم يقع بعد إلا أنه محقق الوقوع في المستقبل كأن يصاب شخص بإصابة تعطله عن العمل في الحال ويكون من المؤكد فضلا عن ذلك، أنها ستؤثر في قدرته على العمل في المستقبل. فالتعويض في هذه الحالة يجب أن يشمل الضرر الحال والضرر الذي سيقع في المستقبل.  

وقد يستطيع القاضي أن يقدر الضرر جميعه الحال والمستقبل فعندها يحكم بالتعويض الواجب كله دفعة واحدة، وقد لا يكون بالمستطاع تقدير الضرر المستقبل في الحال، لأنه يتوقف على أمر لم تتبين حقيقته بعد، كما لو أصيب شخص ولم يعرف في الحال مدى ما سيكون لهذه الإصابة من أثر في قدرته على العمل في المستقبل. ففي هذه الحالة يجوز للقاضي إما أن يحكم بالتعويض عن الضرر الحال، ويحفظ للمضرور الحق في أن يطالب بالتعويض عن الضرر المستقبل، وإما أن يؤجل الحكم بالتعويض حتى يتبين مدى الضرر كله الحال و المستقبل.

وجوب التمييز بين الضرر المستقبل والضرر المحتمل :  يجب التمييز بين الضرر المستقبل والضرر المحتمل، فالضرر المستقبل محقق الوقوع لذلك يجب التعويض عنه. أما الضرر المحتمل فهو غير محقق الوقوع فقد يقع وقد لا يقع. لذلك لا يصح التعويض عنه وإنما يجب الانتظار إلى أن يقع.

                                 المطلب الثاني :  في الضرر المعنوي  

الضرر الأدبي أو الضرر المعنوي هو الذي يصيب الانسان في ناحية غير مالية. فهو قد يصيب الجسم من جراء جروح أو عاهات تحدث تشويها وتسبب الألم في نفس المصاب. وهو في يصيب الشرف والاعتبار كما في حالة هتك العرض أو القذف أو السب أو النيل من السمعة. وقد يصيب الضرر المعنوي شعور الانسان وعاطفته كما في حالة الاعتداء على الأب او الأم أو قتل الابن أو الزوجة وما يستتبع ذلك من حزن وأسى.

وقد يحصل أن يكون الضرر المعنوي مقترنا بضرر مادي كما في حالة جروح في الجسم تسبب تشويها وألما في النفس وتورت عجزا في القدرة على الكسب، أو كما في حالة موت أب يسبب الحزن والأسى لزوجه وأولاده ويحرمهم فوق ذلك من معيلهم. فما يترتب من عجز على القدرة في الكسب في المثال الأول أو من فقدان المعيل في المثال الثاني يشكل ضررا ماديا، وما ينجم من تشويه وألم أو من حزن وأسى يؤلف ضررا معنويا.

وقد يقع الضرر المعنوي دون أن يكون مقرونا بضرر مادي كما في حالة النيل من السمعة والشرف أو في حالة القذف أو السب.

الضرر المعنوي يعطي الحق في التعويض :

  وهذا ما أكده المشرع المغربي صراحة في قانون الالتزامات والعقود حيث ورد في الفصلين 77 و78 أن كل شخص يسأل عن الضرر المادي و المعنوي الذي يحدثه للغير.

وجوب كون الضرر المعنوي محققا: لا بد في الضرر المعنوي من أن يكون ضررا محققا حتى يعطي الحق في التعويض شأنه في ذلك شأن الضرر المادي. أما الضرر المعنوي المحتمل فهو لا يكفي لمنح المضرور حق المطالبة بالتعويض.

من له حق التعويض عن الضرر المعنوي :

  القاعدة أن كل شخص يصاب بالضرر المعنوي يثبت له الحق في التعويض عنه، شرط أن يقيم الدليل على أن مثل هذا الضرر قد أصابه. وإذا توفي المضرور ضررا معنويا بعد إقامة الدعوى بالمطالبة بالتعويض، فإن حقه في التعويض يؤلف جزءا من ذمته المالية وينتقل إلى الورثة شأن سائر الحقوق الداخلة في هذه الذمة المالية. وبهذا يحل الورثة محل مورثهم في المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي الذي أصاب مورثهم.

وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يحدد الأشخاص الذي يسوغ لهم المطالبة بالتعويض عما يصيبهم من ألم بسبب موت المصاب تاركا الأمر لتقدير القاضي الذي يعود له منح التعويض لمن يتبين له أنه يستحق الحصول عليه.

                  المبحث الثالث : علاقة السببية بين الخطأ والضرر

لا يكفي لقيام المسؤولية التقصيرية أن يكون هناك خطأ من جهة وضرر من جهة أخرى. بل  لا بد أن يكون الخطأ هو الذي أدى إلى وقوع الضرر، أو بعبارة أخرى لا بد من قيام رابطة السببية بين الخطأ الذي ارتبه المسؤول، وبين الضرر الذي أصاب المضرور. وتتمتع محكمة الموضوع بسلطة تقديرية مطلقة في تعيين رابطة السببية بين الفعل والضرر. ويترتب على وجوب قيام هذه الرابطة السببية النتائج الهامة التالية :   

أولا :   الضرر المباشر وحده هو الذي يجب التعويض عنه، لأن هذا الضرر هو وحده الذي تقوم علاقة السببية بينه وبين خطأ المسؤول.

ثانيا :  تنتفي المسؤولية التقصيرية إذا كان الضرر قد نشأ عن خطأ المضرور نفسه أو عن حادث فجائي أو قوة قاهرة.

فلنبحث في الضرر المباشر، ثم في خطأ المضرور، ثم في القوة القاهرة أو الحادث الفجائي.

  الفقرة الأولى : الضرر المباشر

قد يرتكب شخص فعلا يفضي إلى سلسلة من الأضرار يعقب بعضها بعضا. فهنا يثار السؤال حول ما إذا كان مرتكب الفعل يسأل عن الأضرار المتعاقبة كلها ؟

وكجواب على هذا السؤال نجد المشرع المغربي نص صراحة في الفصل 264 الوارد في القسم المتعلق “بآثار الالتزامات بوجه عام” ساء كانت عقدية أم كانت تقصيرية، – على وجوب الاعتداد بالضرر المباشر ليس إلا، حيث ورد في الفصل المذكور أن “الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام”.

يضاف إلى اذلك أن الفصلين 77 و78 إذ قررا مسؤولية مرتكب الفعل الضار إزاء المضرور قد علقتا صراحة ترتب هذه المسؤولية على كون ” الخطأ هو السبب المباشر في حصول الضرر”.

وعليه فالذي يجب التعويض عنه هو الضرر المباشر، أما الضرر غير المباشر فلا يؤخذ بعين الاعتبار.

ويقصد بالضرر المباشر ما كان نتيجة طبيعية للخطأ الذي أحدثه المسؤول، والذي لم يكن باستطاعة المضرور أن يتوقاه ببذل جهد معقول.

الفقرة الثانية :  خطأ المضرور 

قد يكون الضرر الذي لحق بالمضرور نتيجة خطأ المضرور وحده، وقد يكون هذا الضرر نشأ عن خطأ الطرفين المضرور من جهة والمدعى عليه في دعوى المسؤولية من جهة ثانية، أو بعابرة أخرى قد يكون الضرر نتيجة ما يسمى بالخطأ المشترك. فعلينا إذن أنبحث في هاتين الفرضيتين :   

فرضية خطأ المضرور وحده : قد يحصل أن يثبت المدعى عليه في دعوى المسؤولية التقصيرية، أن الضرر الذي يدعى به هو من فعل المضرور نفسه، كما لو حاول شخص أن يركب القطار أثناء سيره –وهو ما تمنعه أنظمة المواصلات – فتزل قدمه ويسقط فيصاب بجروح ورضوض، ففي مثل هذه الحالة لا مكان للمسؤولية التقصيرية إذ المضرور هو الذي أحلق الضرر بنفسه.

فرضية الخطأ المشترك : قد ينشأ الضرر عن خطا المدعى عليه في دعوى المسؤولية وعن فعل المضرور، ويكون نتيجة ما يسمى بالخطأ المشترك، كما لو قاد شخص سيارته بسرعة تزيد على الحد المفروض، فدهس شخصا كان يعبر الطريق من مكان ليس مخصصا لعبور المشاة، أو كما لو حصل اصطدام بين سيارتين نتيجة خطأ سائقي هاتين السيارتين.

ففي مثل هذه الحالات الرأي السائد في التشريعات الحديثة وفي الفقه والقضاء في مختلف البلاد، أن اشتراك المضرور بفعله في إحداث الضرر الذي أصابه لا يترتب عليه عدم مساءلة المدعى عليه الذ يثبت خطؤه، وإنما توزع المسؤولية بين الطرفين بحسب جسامة الخطأ الذي صدر من كل منهما فإذا تبين مثلا أن خطأ أحدهما ضعفا خطأ الطرف الثاني، فإنه يحكم على هذا الأخير بثلث التعويض ويتحمل الطرف الآخر بالثلثين.

وتجدر الملاحظة إلى أنه لا بد من إقامة البينة على خطأ الضحية  بحيث ما لم تقم هذه البينة أسندت المسؤولية كاملة إلى المتسبب في الحادث ولا مجال لتجزئتها بينه وبين الضحية.

على أن قاعدة توزيع المسؤولية في حالة الخطأ المشترك، تستبعد عندما يكون أحد الفعلين متعمدا، ويحل محلها مبدأ تحميل المسؤولية بالكامل إما لمرتكب الفعل الضار وإما للمضرور رغم خطأ الطرف الآخر.

الفقرة الثالثة : القوة القاهرة والحادث الفجائي

لقد اعتبر المشرع المغربي القوة القاهرة والحادث الفجائي على حد سواء من حيث عدم ترتيب المسؤولية، حيث صرح في الفصل 95 من قانون الالتزامات والعقود أنه “لا محل للمسؤولية المدنية… إذا كان الضرر قد نتج عن حادث فجائي او قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه”.

ويشترط في حادث معين لكي يعتبر بمثابة قوة قاهرة أو حادث فجائي تنتفي معه المسؤولية التقصيرية أن تتوفر فيه الشروط الثلاثة التالية :   

الشرط الأول :   يجب أن يكون الحادث أمرا لا يمكن توقعه. فإذا أمكن توقعه كفيضان نهر يحصل في أوقات دورية، فلا يشكل قوة قاهرة أو حادثا فجائيا حتى ولو استحال دفعه.

الشرط الثاني :   يجب أن يكون الحادث مما يجعل تفادي الضرر أمرا مستحيلا لا يستطاع دفعه. ويقصد بالاستحالة هنا لا الاستحالة بالنسبة لشخص المسؤول فحسب بل تلك التي تكون بالنسبة إلى أي شخص يوجد في موقف المسؤول. أما إذا كان من شأن الحادث أن يجعل تفادي الضرر أكثر مشقة أو أكثر إرهاقا أو كلفة فلا يكون هناك قوة قاهرة تنتفي معها المسؤولية التقصيرية.

الشرط الثالث :   يجب أن لا يكون هناك خطأ من جانب المسؤول ادى إلى وقوع الحادث إذ أن هذا الخطأ يفقد الحادث وصف القوة القاهرة أو الحادث الفجائي. فإذا هطلت امطار في غير موسمها وألحقت أضرارا ببضاعة في العراء معهود بحفظها إلى شركة تتولى مثل هذا العمل، وكان حفظ البضاعة يجري عادة في تخزينها في مستودعات مبنية لهذا الغرض، وكان من غير المألوف وضع البضاعة في العراء، فإن الشركة تكون مسؤولة عن الضرر الذي أصاب البضاعة، لأن هذا الضرر يرجع إلى خطأ من جانبها.

أثر القوة القاهرة والحادث الفجائي :   إذا كانت القوة القاهرة أو الحادث الفجائي السبب الوحيد في وقوع الضرر، فإن علاقة السببية بين الخطأ والضرر تكون مفقودة وبالتالي لا تتحقق المسؤولية. وهذا ما أوضحه الفصل 95 إذ اشترط لعدم ترتب المسؤولية التقصيرية أن يكون الضرر حصل بحادث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه.

أما إذا اشتركت القوة القاهرة أو الحادث الفجائي مع خطأ من المدعى عليه في إحداث الضرر كان المدعى عليه مسؤولا مسؤولية كاملة لأن خطأه هو الذي يعتبر السبب في وقوع الضرر. فلو أن سائق سيارة مثلا كان يسير بسرعة جنونية تفوق الحد المقرر ثم هبت ريح شديدة فاقتلعت شجرة وألقت بها أمام السيارة فترتب على ذلك أن جنحت السيارة لسرعتها وانقلبت على أحد المارة فأصابته بجروح، كان السائق مسؤولا اتجاه المصاب والتزم بالتعويض عليه تعويضا كاملا.

الفرع الثاني : آثار المسؤولية عن العمل الشخصي

 إذا توافرت شروط المسؤولية التقصيرية عن العمل الشخصي وهي الخطأ والضرر و العلاقة السببية بينهما، ترتب على ذلك ان يلتزم المسؤول بتعويض المضرور عما أصابه من ضرر. وما لم يقم المسؤول بدفع هذا التعويض رضاء، فسبيل المضرور للحصول على التعويض هو دعوى المسؤولية.

وقد يحصل أن تجري اتفاقات تعدل من أحكام المسؤولية، وتهدف إما إلى الإعفاء أو التخفيف من آثارها، وإما على العكس إلى التشديد في هذه الآثار. فهل مثل هذه الاتفاقات صحيحة ؟

يقتضي الأمر أن نبحث على التعاقب في دعوى المسؤولية  البحث الأول ؛ ثم في التعويض الذي يحصل عليه المضرور نتيجة هذه الدعوى المبحث الثاني ؛ ثم في الاتفاقات المعدلة لأحكام المسؤولية (المبحث الثالث).

المبحث الأول : في دعوى المسؤولية

إن البحث في دعوى المسؤولية يقتضي التطرق إلى أمور عديدة تتعلق بالمواضيع التالية :   الاختصاص، الأطراف في الدعوى،  الاثبات، و التقادم.

الاختصاص :  في حاجة إل إغنائه …

الأطراف في الدعوى : إن المدعى عليه في دعوى المسؤولية التقصيرية هو الشخص المسؤول عن الضرر اللاحق بالمضرور. وإذا توفي هذا الشخص المسؤول فالالتزام بالتعويض ينتقل إلى تركته. وهذا ما نصت عليه الفصل 105 بقوله :  “في الجرم وشبه الجرم تكون التركة ملزمة بنفس التزامات الموروث”.

أما المدعي في دعوى المسؤولية فهو الشخص الذي أصابه الضرر. وقد يحصل أن يكون الضرر أصاب عدة أشخاص. فلكل من هؤلاء حق مستقل في المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به.

وإذا كان المضرور فاقد الأهلية أو ناقصها فالدعوى تقام من نائبه الشرعي، أي من قبل الوصي أو المقدم بحسب الأحوال. وفي حالة وفاة المضرور ينتقل حقه بالتعويض إلى ورثته، وهذه القاعدة مسلم بها عندما يكون المضرور قد رفع الدعوى قبل مماته، إذ عندها تدخل تلك الدعوى ضمن موجودات التركة فتشكل عنصرا من عناصرها وتنتقل إلى الورثة مع هذه الموجودات.

ولكن النقاش يثور في حالة ما إذا كان المضرور قد توفي دون رفع الدعوى من قبله، فهنا يميز بين أن يكون الضرر الذي أصاب المتوفى ضررا مادي أو معنويا :  فإذا كان الضرر ماديا كأن يكون لحق بأموال المتوفى أو نشأ عن نفقات معالجته وتطبيبه قبل الوفاة فمن  المجمع عليه أن للورثة حق المطالبة بالتعويض عن هذا الضرر.

 أما إذا كان الضرر معنويا فالفقه والاجتهاد منقسمان على نفسهما :  فرأي لا يجيز للورثة المطالبة بالتعويض عنه، لأن الحق في التعويض عن الضرر المعنوي في نظر من يقولون بهذا الرأي يتسم بطابع شخصي، فلا ينتقل إلى الورثة بل يزول بموت المضرور. ورأي يعتبر أن الحق بالمطالبة بالتعويض المعنوي ينتقل إلى الورثة إذ حسب من يعتمد هذا الرأي ليس من مقتضيات العدالة أن نجعل المسؤول يستفيد من وفاة قد تكون حصلت للمصاب بصورة مفاجئة لم تترك له مجالا للتفكير برفع الدعوى.

ملاحظة هامة :

 يجب الانتباه إلى أن ما قلناه من حيث عدم جواز إقامة الورثة دعوى بالتعويض عن الضرر المعنوي الذي لحق بمورثهم في الحالة التي يموت فيها دون الادعاء بالتعويض عن هذا الضرر، إنما هو محصور بالدعوى التي يمارسها الورثة بالنيابة عن المورث وبوصفهم خلفا له. ولكن ذلك لا علاقة له بالدعوى التي يمكن أن يمارسها الورثة للمطالبة باسمهم مباشرة بالتعويض عن الضرر المعنوي عن الألم والأسى الذي يصيبهم شخصيا من جراء موت المضرور.

الاثبات :   المسؤولية التقصيرية عن العمل الشخصي تتطلب أن يرتكب شخص خطأ وينشأ عن هذا الخطأ ضرر للشخص الآخر، وتقوم علاقة سببية بين الضرر الذي لحق بالمضرور والخطأ الذي ارتكبه المسؤول.

فعلى من يرفع دعوى المسؤولية التقصيرية أن يثبت هذه الأمور جميعا، وبالتالي أن يقيم الدليل على وجود الخطأ، ثم وجود الضرر، ثم قيام الرابطة السببية بين الخطأ والضرر، وبوسعه أن يقيم هذا الدليل بجميع الطرق الثبوتية ولا سيما بالشهادة و القرائن.

ويعتبر حصول الوقائع المكونة للخطأ أو للضرر، أو تلك التي تفيد قيام علاقة السببية بين الخطأ والضرر، من المسائل الواقعية التي يستقل بتقديرها قاضي الجوهر. أما تكييف الوقائع بأنها خطأ، واشتراط الادراك لقيام الخطأ، والحدود التي يسأل فيها عديم التمييز، وتكييف الوقائع بما يجعلها تدخل في الحالات التي لا يكون فيها التعدي خطأ كحالة الدفاع الشرعي فهذه من المسائل القانونية التي تخضع لرقابة محكمة النقض. وكذلك تعتبر من المسائل القانونية الخاضعة لرقابة محكمة النقض تكييف الوقائع بأنها ضرر محقق يجب التعويض عنه، أو ضرر محتمل لا يستلزم التعويض، والفصل فيمن له حق المطالبة بالتعويض المعنوي ومتى ينتقل هذا الحق.

تقادم دعوى المسؤولية : ينص الفصل 106 من قانون الالتزامات والعقود على أن ” دعوى التعويض من جراء جرم أو شبه جرم تتقادم بمضي خمس سنوات تبتدئ من الوقت الذي بلغ فيه إلى علم الفريق المضرور الضرر ومن هو المسؤول عنه. وتتقادم في جميع الأحوال بمضي عشرين سنة تبتدئ من وقت حدوث الضرر “.

المبحث الثاني : في التعويض

إذا وقع عمل غير مشروع كان للمضرور حق في التعويض عما ألحقه به هذا العمل من ضرر. وقد أيد المشرع المغربي حق المضرور في الفصلين 77 و78، وقرر في الفصول 98 و 99 و100 بعض الأحكام الواجبة التطبيق في حقل التعويض.

 وتتلخص هذه الأحكام بالقواعد التالية : 

 القاعدة الأولى : يجب أن يكون التعويض عن الضرر تعويضا كاملا بحيث يشمل الخسارة التي لحقت المدعي و المصروفات التي اضطر أو سيضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب إضرارا به، وكذلك الكسب الذي فاته (الفقرة الأولى من الفصل 98)

القاعدة الثانية : يجب على المحكمة عند تقديرها الأضرار، أن تدخل في اعتبارها جسامة الخطأ الصادر من المسؤول، وتراعي ما إذا كان الضرر الذي أصاب المضرور قد نجم نتيجة خطأ عادي أم نتيجة تدليس من المسؤول (الفقرة الثانية من الفصل 98).

القاعدة الثالثة : إذا وقع الضرر من أشخاص متعددين يعملون متوافقين، كان كل منهم مسؤولا بالتضامن عن النتائج لا فرق بين من كان منهم محرضا أو شريكا أو فاعلا أصليا ( الفصل99).

القاعدة الرابعة : ويسري الحكم نفسه من حيث المسؤولية التضامنية إذا تعدد المسؤولون عن الضرر، وتعذر تحديد فاعله الأصلي من بينهم أو تعذر تحديد النسبة التي أسهموا بها في الضرر.

تقدير التعويض يستقل به قضاة الموضوع : إن لقضاة الموضوع سلطة تقديرية مطلقة في تعيين مبلغ التعويض الواجب منحه للمضرور، دون أن يكونوا ملزمين ببيان الأسس المعتمدة لإجراء هذا التقدير. ومادام تقدير التعويض يعود لسلطان قضاة الموضوع، فإنه يخرج بالضرورة عن رقابة محكمة النقض.

متى ينشأ الحق في التعويض : الرأي الغالب في هذ الصدد أن حق المضرور ينشأ من وقت وقوع الضرر. ذلك أن العمل غير المشروع هو مصدر الحق في التعويض، فإن تحقق الضرر من وقت صدور هذا العمل وجد الحق في التعويض من ذلك الوقت. أما إذا حصل الضرر بعد مضي زنم على اقتراف العمل الخاطئ فإن الحق لا يوجد إلا من وقت تحقق الضرر لأن هذا الوقت هو الذي تكتمل فيه أركان المسؤولية.

متى يجري تقدير التعويض :

 لا يكون لهذا السؤال أهمية إذا كان الضرر اللاحق بالمضرور بقي هو هو من يوم تحقق الضرر إلى يوم صدور الحكم، ولكن أهمية هذا السؤال تبدو في الحالة  التي يكون فيه الضرر يوم صدور الحكم غير ما اكن عليه قبل ذلك.

والرأي الراجح بخصوص هذا السؤال هو الذي يقول بوجوب تقدير التعويض يوم صدور الحكم :  ذلك أ ن النتائج التي تترتب على العمل الضار قد تشتد أو تخف تبعا للظروف. ومن تم فهي لا يمكن أن تتحدد إلا حين يلجأ إلى القاضي كي يقوم بهذا التحديد. فإذا تغير الضرر بعد وقوعه عما كان عليه أول الأمر فإن مقداره الحقيقي يجري تحديده في ضوء حالة المضرور يوم صدور الحكــــــــم.

المبحث الثالث : في الاتفاقات المعدلة لأحكام المسؤولية

قد تبرم اتفاقات بغيت تعديل الآثار التي تترتب على المسؤولية التقصيرية. فما حكم هذه الاتفاقات ؟

في هذا الصدد يجب التمييز بين الاتفاقات التي تبرم بعد تحقق المسؤولية، وبين الاتفاقات التي تبرم مسبقا.

فالاتفاقات التي تبرم بعد تحقق المسؤولية هي اتفاقات صحيحة وتنتج آثارها سواء كان من شأن هذه الاتفاقات الإعفاء أو التخفيف أو التشديد. فهكذا يصح للمضرور أن ينزل عن حقه في التعويض كما يصح أن يقبل بتعويض أقل. وكذلك يصح أن يلزم المسؤول نفسه بتعويض أبهظ إذ ليس في كل ذلك ما يخالف النظام العام.

أما الاتفاقات التي تبرم قبل تحقق المسؤولية فهي ممنوعة قانونا وتعتبر عديم الآثار سواء كان تهذه الاتفاقات تتعلق بالمسؤولية الناجمة عن جرم أم المسؤولية الناجمة عن شبه جرم وذلك على ما ورد النص عليه صراحة في الفصلين 77 و78.

Exit mobile version