آثـــــــــــــــــــــــار العقد

عمد قانون الالتزامات والعقود إلى بحث آثار العقد في معرض البحث في آثار الالتزامات عامة ،في القسم الرابع من الكتاب الأول وذلك على  الرغم من أن الموضوعين يتميزان عن بعضهما ،ويحسن عدم الخلط بينهما :فالعقد يهدف بصورة رئيسية إلى إنشاء الالتزامات أما الالتزام فهو يهدف إلى إجبار المدين على تنفيذ ما تعهد به .

من القواعد الكلية ان العقد ينتج آثاره بين المتعاقدين وهو شريعة لهما .وكذلك من القواعد الكلية أن العقد لا ينصرف أثره إلى الغير ،إلا على وجه استثنائي فعلينا إذن أن نبحث في آثار العقد بين المتعاقدين ثم في آثار العقد بالنسبة للغير .

ولما كان كثيرا ما يحصل أن يبرم المتعاقدان عقدا ظاهرا ،ويعمدا إلى تعطيل آثار هذا العقد الظاهر كلها أو بعضها بعقد خفي ،يقال له “ورقة الضد “، فإنه يتعين علينا أن نبحث في هذه الوضعية القانونية التي يطلق عليها في الاصطلاح الفقهي اسم الصورية . وعليه سيشتمل هذا الفصل على ثلاثة فروع :

الفرع الأول آثار العقد بين المتعاقدين

يقصد بالمتعاقدين الأشخاص الذين كانوا طرفا في العقد بأشخاصهم أو بمن يمثلونهم ،فالوكيل أو النائب الشرعي كالولي أو الوصي إذا ما أبرم عقدا بالإضافة إلى الموكل أو القاصر أو ناقص الأهلية ،إنما يمثل الموكل والقاصر وناقص الأهلية بحيث هؤلاء هم الذين يعتبرون طرفا في العقد ،وهم الذين ينتج العقد آثاره إزائهم .وهذه الآثار يمكن جملها بالقواعد التالية:

القاعدة الأولى :العقد شريعة المتعاقدين  /القاعدة الثانية :يجب على المتعاقدين تنفيذ العقد بحسن نية /القاعدة الثالثة :يلزم المتعاقدان لا بما صرحا به في العقد ،بل أيضا بكل ملحقات الالتزام التعاقدي .وسنبحث على التعاقب في كل هذه القواعد

القاعدة الأولى :العقد شريعة المتعاقدين : نصت على هذه القاعدة المادة 230 من ق ل ع فقالت :”الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ،ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون “.

فالقاعدة إذن أن العقد شريعة المتعاقدين ،ومبنى هذه القاعدة أسس ثلاثة : أولها مبدأ سلطان الإرادة إذ الفرد لا يلتزم إلا بما شاء وإذا شاء أن يلتزم فلا يحول دون ذلك حائل ،وثانيها أساس أخلاقي يقوم على وجوب احترام العهود والمواثيق، وثالثها أساس اجتماعي مستمد من ضرورة استقرار المعاملات.

فالقاعدة القائلة أن العقد شريعة المتعاقدين تعني إذن أن المتعاقدان ملزمان باحترام العقد الذي أبرماه وأن القاضي ملزم بتطبيقه ولا يستطيع الانحراف عنه وذلك كما لو كان الأمر يتعلق بقاعدة نص عليها القانون .ويترتب على ذلك أن العقد لا يمكن نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين او للأسباب التي يقررها القانون .إنما بوسع الطرفين نقض العقد بالاتفاق بينهما إذ ما من مانع يمنعهما بعد أن أبرما عقدا أن يتحللا منه بإرادتهما ،وهذا ما يسمى بالإقالة الاختيارية التي تكون سببا لانقضاء الالتزامات التعاقدية ،ويترتب عليها عودة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها وقت إبرام العقد (المادة 393 والمادة 397 من ق ل ع ).

وكذلك بوسع الطرفين بعد إبرامهما اتفاقا ما أن يعدلا في هذا الاتفاق ما أرادا ،وإذا ما جرت هذه التعديلات فور إبرام العقد فإنها لا تعتبر عقدا جديدا وإنما تعتبر جزءا من الاتفاق القديم وذلك ما لم يصرح بخلافه المادة19 أما التعديلات التي تجري بعد انفضاض مجلس العقد فإنها تعتبر عقدا جديدا .

على أن القانون يجيز في بعض العقود لأي من الطرفين أن يستقل بنقض العقد ،كما في الوكالة حيث يجوز للموكل إنهاء الوكالة متى شاء (المادة 931)ويجوز للوكيل التنازل عن وكالته بعد إخطار الموكل بذلك (المادة 934) ،وكما في الوديعة حيث يحق للمودع استرداد الشيء المودع متى أراد المادة 794 ويحق للوديع إذا لم يحدد لرد الوديعة أجل أن يردعا في أي وقت يشاء (المادة 796).

ولكنه لابد في نقض العقد بإرادة منفردة من وجود نص قانوني يجيز ذلك أما إذا انتفى مثل هذا النص فيجب الرجوع إلى القاعدة العامة القائلة بعدم جواز إقالة العقد أو تعديله إلا برضاء المتعاقدين معا .

القاعدة الثانية :يجب على المتعاقدين تنفيذ العقد بحسن نية : وردت هذه القاعدة في المادة 231 من ق ل ع التي نصت على أن “كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية “. وسوء النية في تنفيذ العقد يسمى في الاصطلاح القانوني غشا ،وهو يقابل التدليس الذي يرافق تكوين العقد ،فكما يجب خلو العقد من التدليس عند إنشائه ،يجب خلوه من الغش عند تنفيذه .

ويقتضي حسن النية من المتعاقد أن يختار في تنفيذ العقد الطريقة التي تفرضها الاستقامة والنزاهة في التعامل .

وفي بعض العقود يقتضي حسن النية أن يكون هناك تعاون بين المتعاقدين في تنفيذ العقد ،بحيث يجب على كل منهما الاعتداد  بما يفرضه عليه هذا التعاون .فهكذا  في عقد الإيجار مثلا يجب على المستأجر أن يبادر إلى إخطار المؤجر بكل واقعة تستوجب تدخله ،كأن تحتاج العين إلى إصلاحات مستعجلة ،أو تتكشف عيوب فيها ،أو يقع اغتصاب عليها أو  يدعي أحد ملكيتها أو حق عينيا عليها أو يلحق أحدا ضررا بها (المادة 674) .

والتزام المتعاقد بمراعاة حسن النية في تنفيذ العقد التزام يفرضه العقد نفسه .فإذا أخل بهذا الالتزام وقع تحت طائلة المسؤولية العقدية .

القاعدة الثالثة :يلزم المتعاقدان لا بما صرحا به في العقد بل أيضا بكل ملحقات الالتزام التعاقدي :فالمادة 231 بعد أن أوجبت تنفيذ العقد بحسن نية أوضحت أن العقد “لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب بل أيضا بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون أو العرف أو العدالة وفقا لما تقتضيه طبيعته . فهكذا مثلا إذا ما بيع بناء فالبيع يشمل الأرض التي أقيم عليها كما يشمل ملحقاته المتصلة به اتصال قرار كالأبواب والنوافذ والمفاتيح التي تعتبر جزءا متمما للأقفال …”(المادة 518)  وإذا كان محل عقد البيع أرضا فالبيع لا يكون مقتصرا على الأرض فحسب ،بل هو يشمل أيضا ما يوجد فيها من مباني وأشجار كما يشمل الزرع الذي لم ينبت و الثمر الذي لما ينعقد “(المادة 517 ) .

وكذلك تقتضي مبادئ العدالة أن يضمن البائع للمشتري ما يمكن أن يقع له من تعرض أو ما يمكن أن يظهر في المبيع من عيوب خفية ولو أن ذلك لم يذكر صراحة في العقد . فمن هذه الأمثلة يتضح أن الطرفين المتعاقدين لا يلزمان بما صرحا به في العقد فحسب ،بل إنما يمتد التزامهما ليشمل سائر المستلزمات التي يقررها القانون أو العرف أو العدالة وفقا لما تقتضيه طبيعة الالتزام التعاقدي .

الفرع الثاني :آثــــــــــار العقد بالنسبة للغير

نعني بالغير هنا كل من لم يكن طرفا في العقد بشخصه أو بمن يمثله .والغير بهذا المعنى الواسع على أنواع :فهو يشمل الخلف العام والخلف الخاص ،و الدائنين ،والغير بالمعنى الصحيح الضيق أي من لا تربطه بالمتعاقدين أي رابطة إلزامية ،وهو كل من سوى الخلف العام والخلف الخاص والدائنين .

فعلينا أن نبحث في آثار العقد بالنسبة إلى  كل فئة من هؤلاء الغير .

وعليه سنقسم هذا الفرع إلى أربعة مباحث : المبحث الأول :أثر العقد  بالنسبة إلى الخلف العام  / المبحث الثاني: أثر العقد بالنسبة إلى الخلف الخاص  / المبحث الثالث :أثر العقد بالنسبة للدائنين  /  المبحث الرابع : أثر العقد بالنسبة إلى الغير بالمعنى الصحيح الضيق .

                         المبحث الأول :أثر العقد بالنسبة إلى الخلف العام

يقصد بالخلف العام successeur à titre universel  من يخلف سلفه في كامل ذمة ذلك السلف .أو في جزء شائع منها أي في حصة نسبية منها كالنصف أو الثلث ،فالوارث الواحد أو الواحد من الورثة المتعددين يعتبر خلفا عاما ، والموصى له بمجموع التركة أو الموصى له بجزء شائع منها كالثلث أو الربع يعتبر كذلك خلفا عاما .

وقد عرض المشرع المغربي لآثار العقد بالنسبة إلى الخلف العام في المادة 229 حيث قال :” تنتج الالتزامات أثرها لا بين المتعاقدين فحسب ولكن أيضا بين ورثتهما وخلفائهما ما لم يكن العكس مصرحا به أو ناتجا عن طبيعة الالتزام أو عن القانون .ومع ذلك فالورثة لا يلتزمون إلا في حدود أموال التركة ،وبنسبة مناب كل واحد منهم .وإذا رفض الورثة التركة لم يجبروا على قبولها ولا على تحمل ديونها وفي هذه الحالة ليس للدائنين إلا أن يباشروا ضد التركة حقوقهم “.فبمقتضى هذا النص القاعدة هي أن أثر العقد ينصرف إلى الخلف العام مع عدم الإخلال بقواعد الميراث .ولكن لهذه القاعدة بعض الاستثناءات لا يسري فيها أثر العقد على الخلف العام .

القاعدة العامة :انصراف أثر العقد إلى الخلف العام مع عدم الإخلال بقواعد الميراث

مقتضى هذه القاعدة أن أثر العقد ينصرف إلى الخلف العام كما لو كان هو العاقد :فهكذا مثلا لو كان عقد السلف صوريا سرى في حق الخلف العام العقد الحقيقي لا العقد الظاهر ( المادة 22) .وهكذا أيضا تكون الأوراق العرفية حجة بتاريخها على الخلف العام كما كانت بالنسبة إلى سلفه (المادة 426) . كذلك ينتقل خيار الفسخ الذي كان يتمتع به المتعاقد إلى ورثته من بعده .

إلا أنه فيما يخص قواعد  الميراث بقي المشرع المغربي متمشيا مع أحكام الشريعة الإسلامية  من حيث أنه جعل الورثة حتى في حالة قبولهم التركة ،”لا يلتزمون إلا في حدود أموال التركة وبنسبة مناب كل واحد منهم “.فبمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية تكون التركة وحدها هي المثقلة بالالتزامات الموروث ،فلا يجبر الوارث على وفاء شيء من هذه الالتزامات من ماله الخاص .

حالات استثنائية لا يسري فيها أثر العقد على الخلف العام :

بالرجوع إلى المادة 229 من ق ل ع يتضح أن أثر العقد ينحصر بالمتعاقدين وحدهما ولا يسري على الخلف العام إما احتراما لإرادة المتعاقدين أنفسهما ،وإما عملا بطبيعة العقد ،و إما تنفيذا لنص قانوني .هناك إذن ثلاث حالات استثنائية لا ينصرف فيها أثر العقد إلى الخلف العام :

الحالة الأولى :إرادة المتعاقدين أنفسهما : قد يعمد المتعاقدان وقت إبرام العقد ،إلى النص في صلبه على عدم انصراف أثر العقد إلى الخلف العام ،وذلك كما لو اتفق الطرفان على أن الأجل الذي منحه البائع للمشتري لسداد الثمن لا يستفيد منه ورثة المشتري ،حيث يكون على الورثة وفاء الثمن من التركة فورا ،أو كما لو تضمن عقد الإيجار نصا على أن العقد يعتبر مفسوخا بموت المستأجر ،حيث لا يلتزم ورثة المستأجر بالإبقاء على عقد الإيجار .

الحالة الثانية :طبيعة العقد :قد تأبى طبيعة العقد أن ينصرف أثره إلى الخلف العام مثال ذلك عقد الإيراد المرتب لمدى الحياة أو الإيراد العمري contrat de rente viagère  .فمن طبيعة هذا العقد كم يتبين من اسمه ، أن ينقضي الحق الناشئ عنه بموت الدائن الذي رتب له الإيراد وأن لا ينتقل بالتالي إلى الخلف العام لهذا الدائن .

الحالة الثالثة :نص القانون :قد ينص القانون نفسه على عدم سريان أثر العقد على الخلف العام كما في العقد المتضمن إنشاء حق انتفاع حيث ينقضي الانتفاع بموت المنتفع ،أو كما في الوكالة حيث تنتهي الوكالة بموت الموكل أو الوكيل (المادة 929) .

المبحث الثاني :آثار العقد بالنسبة للخلف الخاص

المقصود بالخلف الخاص من تلقى من سلفه حقا معينا كان قائما في ذمة هذا السلف ،سواء كان هذا الحق عينيا ،كما في الحق الذي ينتقل إلى المشتري أو الموهوب له أو الموصى له بعين معينة .أم كان حقا شخصيا كما في الحق الذي ينتقل من المحيل إلى المحال له . والتشريع المغربي لم يتطرق لموضوع أثر العقد بالنسبة إىل الخلف الخاص ولكن يمكن تحديد هذا الأثر على هدي بعض المبادئ العامة  ومن جملة هذه المبادئ أن الشخص لا يستطيع أن ينقل إلى الغير أكثر مما يملك ـوينتج عن ذلك أن الخلف الخاص يتلقى الشيء أو الحق بالحالة التي كان عليها في ذمة سلفه المالية .وبالوضع الحقوقي الذي حددته لهذا الشيء او الحق العقود السابقة التي جرت بشأنه .

ثم أنه من المبادئ العامة أيضا أن المال (شيئا كان أم حقا ) إذا انتقل من سلف إلى خلف ،فهو ينتقل بسائر ما يتمتع به من ميزات وضمانات :فإذا اكتسب مثلا مالك عقار ارتفاقا لمصلحة عقاره على عقار مجاور ثم باعه فإن المشتري يتلقى العقار المبيع مع الارتفاق الذي كان تقرر لمصلحته ويستفيد إذن من العقد الذي كان أبرمه البائع مع صاحب العقار المرتفق به المجاور رغم عدم كون المشتري طرفا في هذا العقد .

على أنه يجب الانتباه إلى أن سريان عقود السلف على الخلف الخاص يشترط فيه تحقق الشروط الآتية :

أولا :يجب أن يكون عقد السلف سابقا لخلفية الخلف الخاص .أما إذا كان لاحقا ،كأن يؤجر مثلا بائع عقار هذا العقار بعد أن انتقلت ملكيته للمشتري .فلا يكون للإيجار أدنى أثر بالنسبة إلى الخلف الخاص ،ولما كانت الاسبقية في التاريخ أمر لا بد منه لسريان أثر العقد على الخلف الخاص ،بات من اللازم أن يكون سبق تاريخ العقد ثابتا بصورة رسمية .

ثانيا :يجب أن يكون عقد السلف وثيق الصلة بالشيء أو الحق الذي انتقل إلى الخلف الخاص أو بتعبير آخر يجب أن تكون الحقوق والالتزامات المتولدة عن هذا العقد من مستلزمات الشيء  أو الحق الذي انتقل فيما بعد إلى ذلك الخلف تعتبر الحقوق من مستلزمات الشيء أو الحق إذا كانت مما يكمله ويتممه ،وتعتبر الالتزامات من مستلزمات الشيء أو الحق إذا كانت مما يحده أو يقيده .

ثالثا :يجب أن يكون الخلف الخاص على علم بالحقوق والالتزامات الناشئة من العقد الذي عقده سلفه ،وتظهر أهمية هذا الشرط في الالتزامات الناشئة من عقد السلف .ذلك أن هذه الالتزامات تعتبر بمثابة قيود على حق الخلف الخاص ،فلا بد أن يكون الخلف عالما فعلا بهذه القيود ليكون ملزما باحترامها .

المبحث الثالث :آثار العقد بالنسبة للدائنين

منحت المادة 1241 من ق ل ع حق ضمان عام للدائن على أموال مدينه فقررت أن “أموال المدين ضمان عام لدائنيه ويوزع ثمنها عليهم بنسبة دين كل واحد منهم …”.

ومادامت اموال المدين تعتبر الضمان العام للدائنين ،كان من الطبيعي أن يتأثر الدائن بالعقود التي يعقدها مدينه ،وذلك بطريق غير مباشر من حيث أن هذه العقود قد تزيد أو تنقص في ضمانه العام ،ومن هنا يتبين أن التصرف الذي يبرمه المدين يقتصر أثره  في هذا الشأن على أن الدائن يستفيد بطريقة غير مباشرة من الحقو ق التي يكتسبها المدين لأنها تزيد في الضمان العام المقرر له ويضار على العكس ،وبصورة غير مباشرة أيضا من الالتزامات التي تترتب على المدين لأنها تنقص من هذا الضمان العام .

والقاعدة أن للمدين التصرف في ماله على الصورة التي يريدها ،وأن الدائن ليس له أن يناقش أو يعارض هذا التصرف حتى لو انقص من ضمانه العام . على أن المشرع يخول عادة الدائن وسائل من شأنها أن تكفل حمايته من تصرفات المدين الضارة .ومن هذه الوسائل التي أقرها المشرع المغربي ما إذا أبرم المدين عقدا صوريا يضر بالدائن :كان يكون أقدم على تهريب كل أو بعض أمواله بعقد وهمي، حيث يجوز للدائن أن يطعن بهذا العقد ويعيد الأموال المتصرف فيها وهميا إلى ذمة مدينه المالية لتبقى داخلة في الضمان العام (المادة 22) ومن هذه الوسائل أيضا منح الدائن حق إيقاع الحجز التحفظي على أموال مدينه ،ولو كان دينه مقرونا بأجل ،ليمنع على المدين التصرف بهذه الأموال فتبقى في ذمته المالية ( المادة 238) ومن هذه الوسائل كذلك حق الدائن في حبس ما في حوزته من أموال للمدين حتى استيفاء ما هو مستحق له قبل هذا المدين .

وثمة وسائل أخرى لم يأخذ بها المشرع المغربي وأقرتها أغلب التشريعات ،تسمح للدائن إذا ما أبرم المدين تصرفا جديا ضارا به أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف بحقه عن طريق ممارسة ما يسمى “بالدعوى البوليانية ” أو بالدعوى المباشرة ،كما تسمح له إذا ما أهمل المدين المطالبة بحق له في ذمة الغير أن يطالب بهذا الحق باسم مدينه عن طريق ممارسة ما يسمى بالدعوى غير المباشرة .

المبحث الرابع :آثار العقد بالنسبة للغير بالمعنى الصحيح الضيق

المقصود بالغير هنا كل من سوى الخلف العام والخلف الخاص والدائنين ،أي كل شخص أجنبي عن حلقة المتعاقدين ولا تربطه بهما أي رابطة إلزامية ،وهذا الشخص الاجنبي عن حلقة المتعاقدين هو من قصده المشرع عندما أعلن في المادة 33أنه “لا يحق لأحد أن يلزم غيره ولا أن يشترط لصالحه إلا إذا كانت له سلطة النيابة عنه بمقتضى وكالة أو بمقتضى القانون “. وهو من قصده كذلك عندما صرح في المادة 228 ان ” الالتزامات لا تلزم إلا من كان طرفا في العقد فهي لا تضر الغير  ولا تنفعهم إلا في الحالات المذكورة في القانون “.

فالقاعدة الأساسية إذن هي أن الغير لا يصبح دائنا ولا مدينا بعقد يبرمه متعاقدان آخران .ولكن ثمة حالات مذكورة في القانون وأشارت إليها المادة 228 يمكن فيها على وجه استثنائي ،جعل الغير يكسب حقوقا أو تترتب عليه التزامات بعقد لم يكن قد اشترك فيه .وهذه الحالات الاستثنائية هي :أولا – الالتزام عن الغير على شرط إقراره إياه   / ثانيا – الاشتراط لمصلحة الغير .  وسنفرد مطلبا خاصا لكل من هاتين الحالتين :

المطلب الأول :الالتزام عن الغير على شرط إقراره إياه

يقصد بالالتزام عن الغير شرط إقراره إياه أن يبرم شخص التزاما باسم غيره شرط أن يقر هذا الغير الالتزام الذي أبرم باسمه .وتتحقق أهم صور لهذه الوضعية القانونية في الحياة العملية ،عندما يتعذر الحصول على رضاء صاحب الشأن في خصوص أمر معين ،فيتصرف شخص آخر بهذا الأمر شرط إقرار صاحي الشأن التصرف الذي جرى باسمه .مثال ذلك أن يتعذر على الوكيل إنجاز تصرف يتجاوز حدود الوكالة ،ويخشى ضياع الوقت ،فيبرم العقد باسم الموكل بوصفه غيرا شرطا أن يقر هذا الأخير العقد الذي أبرم باسمه .

حكم الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه : المبدأ القانوني في هذا الالتزام أن ذلك الغير الذي أبرم الالتزام باسمه له الحرية المطلقة في ان يرفض هذا الالتزام أو يقبل به .

ولا تترتب في هذه الحالة أي مسؤولية على الملتزم عن الغير إزاء الطرف الآخر ،لأن التعاقد وقع في الأصل على شرط أن يحظى بإقرار الغير المتعاقد باسمه ،وأن الملتزم عن الغير لم يتعهد إزاء متعاقده بالحصول على هذا الإقرار .

ويستطيع الغير أن يقر الالتزام الذي لأبرم باسمه ،إنما يجب أن يقع هذا الإقرار خلال فترة معقولة .وفي سبيل ذلك أعطى المشرع الطرف الآخر الحق في أن طلب من الغير إعلان موقفه من الالتزام الذي أبرم باسمه . ويتحلل هذا الطرف من التزامه غذا لم يعلن الغير عن قبوله خلال خمسة عشر يوما  على الاكثر بعد حصول الإخطار بالعقد .وبهذا المعنى قررت المادة 36 أنه في حالة الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه ” يكون للطرف الآخر أن يطلب قيام هذا الغير بالتصريح بما إذا كان ينوي إقرار الاتفاق .ولا يبقى هذا الطرف ملتزما إذا لم يصدر الإقرار في أجل معقول .على أن لا يتجاوز هذا الاجل خمسة عشر يوما بعد الإعلام بالعقد “.

ولا يشترط في الإقرار أن يصدر صراحة وإنما يمكن أن يحصل بصورة ضمنية ،كما لو قام الغير بتنفيذ العقد الذي أبرم باسمه ( المادة 37 ) .بل يسوغ استخلاص الإقرار حتى من السكوت ،إذا كان الشخص الذي يجري التصرف في حقوقه حاضرا أو أخطر على وجه صحيح بحصول هذا التصرف ،ولم يعترض عليه دون أن يكون هناك سبب مشروع يبرر سكوته (المادة 38).

ويعتبر الإقرار بمثابة الوكالة لذا ينتج أثره في حق المقر فيما يرتبه له أو عليه من وقت إبرام التصرف الذي حصل إقراره .ما لم يصرح بغير ذلك .فللإقرار إذن أثر رجعي ينسحب إلى الوقت الذي تم فيه العقد الجاري باسم المقر ،ويكون الوضع بعد الإقرار كما لو أن العقد تم في الأصل بين المقر من جهة وبين المتعاقد الآخر من جهة ثانية .هذا ما لم يصرح المقر أنه يريد اعتبار نفسه مرتبطا منذ تاريخ إقرار العقد .

على ان أثر الإقرار الرجعي يبقى محصورا فيما بين المقر والمتعاقد الآخر .أما في مواجهة الغير فلا يكون للإقرار أثر إلا من تاريخ حصوله ( المادة 37 ) .

التعهد عن الغير : يراد بالتعهد عن الغير إبرام الشخص عقدا باسمه يتعهد فيه بحمل الغير على قبول الالتزام بأمر معين تحت طائلة تحمل المسؤولية اتجاه الطرف الآخر في حالة رفض الغير أن يلتزم .ومن الواضح أن التعهد عن الغير أكثر فعالية وأنجع ضمانا من الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه :ففي الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه إذا رفض الغير العقد لا يخشى من ترتب أي مسؤولية على الملتزم .أما في التعهد عن الغير ،فيترتب الضمان على المتعهد إذا رفض الغير أن يلتزم .ولعل ذلك يدفع الغير على القبول بالالتزام تفاديا لما يمكن ان يلحق بالمتعهد من ضرر في حالة الرفض.

مقارنة بين التعهد عن الغير وبين الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه : إن مقارنة التعهد عن الغير بالالتزام عن الغير شرط إقراره إياه تظهر يبن هاتين الوضعيتين القانونيتين الفوارق التالية :

في التعهد عن الغير يتعاقد المتعهد باسمه لا باسم الغير الذي يتعهد عنه ،بينما الملتزم عن الغير شرط إقراره إياه لا يتعاقد باسمه هو الملتزم بل يتعاقد باسم هذا الغير .

في التعهد عن الغير يلتزم المتعهد بالقيام بعمل وهو حمل الغير على قبول التعهد .أما الملتزم عن الغير فهو يتعاقد على شرط إقرار الغير العقد ولا يلتزم بشيء .

في التعهد عن الغير إذا قبل الغير التعهد فإن قبوله لا ينتج أثرا  إلا من وقت صدوره ما لم يتبين العكس ،بينما في الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه ينتج الإقرار أثره من وقت إبرام التصرف الذي حصل إقراره ما لم يصرح بغير ذلك .

في التعهد عن الغير إذا قبل الغير التعهد فإن عقدا جديدا ينشأ بين هذا الغير وبين من تعاقد مع المتعهد ويكون بحسب الاحوال التزاما بنقل حق عيني أو بعمل أو بامتناع عن عمل بينما في الالتزام عن الغير ،إذا أقر الغير  العقد فليس ثمة عقد جديد ينشأ ،بل إنما العقد الذي أبرم باسم الغير هو نفسه الذي ينتج آثاره .

في التعهد عن الغير ،إذا رفض الغير أن يلتزم كان ذلك سببا في ترتب المسؤولية على المتعهد وفي الزامه بالتعويض على من تعاقد معه ،بينما في الالتزام عن الغير شرط إقراره إياه ،إذا رفض الغير أن يلتزم ،فإنه لا تترتب أي مسؤولية على الملتزم باسم هذا الغير   .

المطلب الثاني :الاشتراط لمصلحة الغير

الاشتراط لمصلحة الغير تعاقد يتم بين شخصين أحدهما يسمى المشترط stipulant  والآخر الواعد أو المتعهد promettant  ،يشترط فيه الأول على الثاني أن يلتزم هذا الأخير ،إزاء شخص ثالث أجنبي عن التعاقد يسمى المنتفع bénéficiaire فينشأ بذلك للمنتفع حق مباشر يستطيع أن يطالب به المتعهد .وقد خص ق ل ع المغربي للاشتراط لمصلحة الغير المادتين 34 و 35 حيث أقر مبدأ جواز الاشتراط لمصلحة الغير وأوضح الآثار التي تترتب على الاشتراط لمصلحة الغير سواء بالنسبة للمشترط أم بالنسبة للمنتفع أم بالنسبة للغير .

لبحث موضوع الإشتراط لمصلحة الغير سنبدأ ببيان أهم صوره في الحياة العملية ،ثم ننتقل لعرض مختلف الشروط الواجب توافرها لقيام الإشتراط لمصلحة الغير ،ثم نوضح آثار الإشتراط لمصلحة الغير في علاقة المشترط بكل من المتعهد والمنتفع ثم في علاقة المتعهد بالمنتفع .

أهم صور الإشتراط لمصلحة الغير :إن نطاق الإشتراط لمصلحة الغير واسع جدا في الحياة العملية ،وله صور عديدة نجد آثارها في عقود الهبة بعوض ،وفي عقود التأمين وفي عقود نقل البضائع ،وفي عقود المرافق العامة .ولعل من أهم التطبيقات عقود التأمين :ففي عقد التأمين على الحريق كثيرا ما تحتوي وثيقة التأمين شروطا لمصلحة المستأجرين أو الخلف الخاص أو المنتفع وفي عقد التأمين على الأخطار قد يأمن رب العمل لمصلحة عماله عما قد يصيبهم من حوادث العمل . ومن صور الإشتراط لمصلح الغير عقود نقل البضائع الجارية مع شركات النقل عندما يكون الشخص الموجهة إليه البضاعة غير شخص مرسلها .

وكذلك نجد تطبيقا من تطبيقات الاشتراط لمصلحة الغير في عقود التزام المرافق العامة التي تبرم مع شركات المياه والكهرباء ونحو ذلك ،حيث تشترط الإدارة عادة شروطا لمصلحة الجمهور .

شروط الإشتراط لمصلحة الغير : حتى يتحقق الإشتراط لمصلحة الغير لا بد من توافر ثلاثة شروط هي :

الشرط الأول :أن يتعاقد المشترط باسمه   / الشرط الثاني : أن تتجه إرادة المتعاقدين إلى إنشاء حق مباشر للمنتفع  / الشرط الثالث :أن تكون للمشترط مصلحة شخصية في الإشتراط.

ولكن لا ضرورة حتى يتحقق الإشتراط لمصلحة الغير أن يكون المنتفع معينا ولا أن يكون موجودا وقت الإشتراط .

ولسوف نعرض لمختلف الشروط المتطلبة لقيام الإشتراط لمصلحة الغير ثم نبحث في عدم لزوم تعين المنتفع وقت العقد ففي جواز الإشتراط لمصلحة شخص مستقبل أو جهة مستقبلة .

الشرط الأول :تعاقد المشترط باسمه :يجب لقيام الإشتراط لمصلحة الغير أن يتعاقد المشترط مع المتعهد باسمه لا باسم المنتفع .وهذا ما يميز الإشتراط لمصلحة الغير عن مختلف صور النيابة كالوكالة والفضالة .ويترتب على ذلك أن لكل شخص أن يشترط لمصلحة غيره ،مادامت له مصلحة شخصية من وراء هذا الاشتراط وله أن يرجع عن الاشتراط بمحض إرادته إذا أراد ذلك .

الشرط الثاني :اتجاه إرادة المتعاقدين إلى إنشاء حق مباشر للمنتفع :يجب لقيام الاشتراط لمصلحة الغير أن تنصرف إرادة المتعاقدين إلى ترتيب حق للمنتفع ينشأ مباشرة من العقد في ذمة المتعهد بحيث لا يمر هذا الحق قبل وصوله إليه في ذمة المشترط .فإذا كان المشترط قد اشترط الحق لنفسه ثم حوله بعد ذلك إلى شخص آخر فلا يتحقق الإشتراط لمصلحة الغير .ويعود للقضاء في ضوء ظروف العقد تقرير ما إذا كانت نية الطرفين قد انصرفت إلى إنشاء حق مباشر للغير .

الشرط الثالث :وجود مصلحة شخصية للمشترط في الاشتراط : يجب أن تكون للمشترط مصلحة شخصية في الاشتراط ،ومصلحة المشترط  لا يشترط فيها ان تكون مادية كما لو اشترط شخص على المتعهد أن يدفع مبلغا من المال إلى المنتفع سدادا لدين مترتب لمصلحة هذا الأخير في ذمة المشترط .بل يجوز أن تكون أدبية أي معنوية .كما في هبة يشترط فيها الواهب على الموهوب له التزاما لمصلحة مستشفى .ووجود مصلحة لدى المشترط ليس مرهونا بترتيب التزام عليه ،فقد توجد المصلحة حتى ولو كان المشترط لا يلزم نفسه بشيء .

وإن وجود المصلحة الشخصية للمشترط هو الذي يبرر حقه بمطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه نحو المنتفع، حتى بعد أن يظهر المنتفع رغبته في قبول المشارطة .هذا ما لم يكن حق المطالبة بالتنفيذ قد حصر بالمنتفع وحده ( المادة 35 من ق ل ع) .

عدم اشتراط تعيين المنتفع وقت العقد : نصت المادة 34 من ق ل ع أنه يجوز الاشتراط لمصلحة الغير ولو لم يعين وقت إبرام العقد فالاشتراط يصح إذن لمصلحة شخص غير معين حين عقد  الاشتراط .وهذا الأخير لا يقصد به الشخص الذي لن يستطاع تعيينه أبدا ،بل إنما يقصد به الشخص الذي وإن كان لم يعين وقت الاشتراط .إلا أن تعيينه يبقى مستطاعا وقت أن ينتج العقد أثره ،ففي تأمين رب العمل لمصلحة عماله في المعمل عما قد يصيبهم من حوادث العمل فإن شخص المنتفع وإن كان غير معين وقت العقد إلا أنه سيتعين حين وقوع الحادث .

جواز الإشتراط لمصلحة شخص مستقبل أو جهة مستقبلة : لئن كان المشرع المغربي أجاز الاشتراط لمصلحة الغير ولو لم يكن معينا ( المادة 34 ) فهو سكت عن مصير الاشتراط لمصلحة الغير إذا كان المنتفع شخصا مستقبلا أو جهة مستقبلة .مما حدى بالاجتهاد القضائي إلى التدخل و إقرار جواز مثا هذا النوع من الاشتراط في الهبات بعوض ،حيث قرر صحة الهبة لمصلحة شخص طبيعي أو اعتباري على أن يقوم هذا الشخص بالإنفاق على مؤسسة علمية أو خيرية لم تكتسب بعد الشخصية الاعتبارية .بل لما تنشأ وقت وقوع الهبة .

آثار الاشتراط لمصلحة الغير :تتعلق آثار الاشتراط لمصلحة الغير بثلاثة أشخاص هم : المشترط و المتعهد والمنتفع لذلك وجب علينا أن نبحث في هذه الآثار من ثلاث جهات : الجهة الأولى :علاقة المشترط بالمتعهد  / الجهة الثانية علاقة المشترط بالمنتفع  /  الجهة الثالثة :علاقة المتعهد بالمنتفع .

علاقة المشترط بالمتعهد :المشترط والمتعهد هما طرفا العقد الذي ورد فيه الاشتراط .لذلك فإن هذا العقد هو الذي يحكم العلاقة بينهما وهو الذي تصرف إليهما آثاره إلا ما يتعلق بالحق المشترط لمصلحة الغير ،فهكذا يكون لكل من طرفي العقد التمسك ببطلانه أو إبطاله إذا وجد ما يبرر ذلك . وإذا امتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزامه جاز للآخر تطبيقا للقواعد العامة ،أن يطالب بالتنفيذ العيني إذا كان ممكنا أو بفسخ العقد مع التعويض عند الاقتضاء .

وبما للمشترط من مصلحة شخصية  يتوقف عليها قيام الاشتراط نستطيع مطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه نحو المنتفع ومراقبة هذا التنفيذ ،فإن أخل المتعهد بالتزامه جاز للمشترط أن يرفع باسمه دعوى مباشرة بذلك ،كما جاز له وقف تنفيذ ما أخذه على نفسه من التزامات عملا بأحكام الدفع بعدم التنفيذ .بل قد يكون حق المطالبة بالتنفيذ محصورا بالمشترط وحده بحيث يمتنع على المنتفع ممارسة هذ الحق .وهذا ما ورد عليه النص في المادة 34 من ق ل ع التي جاء فيها أن للغير الحق في أن يطلب باسمه من الواعد تنفيذ الاشتراط وذلك ما لم يمنعه العقد من مباشرة هذه الدعوى .

علاقة المشترط بالمنتفع :

نصت المادة 34 على أنه ” يجوز الاشتراط لمصلحة الغير إذا كان سببا لاتفاق أبرمه معاوضة المشترط نفسه أو سببا لتبرع …”. فمن هذا النص يتضح أن علاقة المشترط بالمنتفع تكون إما من قبيل التبرع أو من قبيل المعاوضة وذلك تبعا لقصد المشترط من العقد. فإن قصد المشترط التبر ع اعتبر ذلك هبة غير مباشرة منه إلى المنتفع ( الموهوب له ) .وإن قصد أن يكون من قبيل المعاوضة فتتحدد العلاقة بينه وبين المنتفع بحسب الأحوال :فقد يكون غرض المشترط إقراض المنتفع بطريق الاشتراط فتسود علاقتهما أحكام القرض ،وقد يكون غرضه وفاء دين عليه للمنتفع فتطبق عليهما في هذه الحالة قواعد انقضاء الالتزام بالوفاء .

على انه سواء كانت طبيعة العلاقة بين المشترط والمنتفع علاقة تبرع أو كانت علاقة معاوضة فإن حق المنتفع في الاستفادة من الاشتراط متوقف على عدم رفضه الاشتراط .ذلك أن للمنتفع الخيار بين بين قبول الاشتراط الجاري لمصلحته وبين رفض هذا الاشتراط  .فإن أعلن المنتفع رغبته في الاشتراط استقر حقه نهائيا ،والإعلان عن هذه الرغبة يجوز أن يأتي صريحا أو ضمنيا وهو غير مقيد في وقت معين ،فيستطيع المنتفع أن يظهر رغبته في أي وقت يشاء ضمن حدود مدة التقادم المسقط .وإذا أعلن المنتفع رفضه الاستفادة من الاشتراط وأخطر المتعهد بهذا الرفض ،اعتبر الاشتراط كأن لم يكن .وهذا ما قررته الفقرة الأخيرة من المادة 34 بقولها :” ويعتبر الاشتراط كأن لم يكن إذا رفض الغير الذي عقد لصالحه قبوله مبلغا الواعد هذا الرفض “.وفي هذه الحالة ينصرف الحق إلى المشترط أو إلى ورثته من بعده وذلك من وقت العقد .ويجوز حينئذ للمشترط ان يعين منتفعا آخرا غير الذي رفض .وفي هذه الحالة يثبت الحق للمنتفع الجديد من وقت العقد أيضا .

علاقة المنتفع بالمتعهد :يكسب المنتفع من العقد المتضمن الاشتراط لمصلحته ،ورغم عدم كونه طرفا في هذا العقد حقا ذاتيا مباشرا إزاء المتعهد لا يتلقاه من المشترط وإنما مصدره عقد الاشتراط .

حق المنتفع إزاء المتعهد حق ذاتي مباشر : إن حق المنتفع إزاء المتعهد هو حق ذاتي يخوله أن يقاضي المتعهد مباشرة لمطالبته بالوفاء بما التزم به ،هذا ما لم يحصر هذ الحق بالمشترط نفسه حيث يمنع على المنتفع مقاضاة المتعهد أو ما لم تعلق مقاضاة المنتفع للمتعهد على شروط معينة حيث يجب توافر هذه الشروط .وبهذا المعنى ورد في المادة 34 أن “الاشتراط ينتج أثره مباشرة لمصلح الغير ويكون لهذا الغير الحق في أن يطلب باسمه من الواعد تنفيذه ،وذلك ما لم يمنعه العقد من مباشرة هذه الدعوى أو ما لم تعلق مباشرتها على شروط معينة “.

وتجدر الاشارة إلى أن المنتفع إذا كان له أن يلاحق المتعهد بالتنفيذ فليس له في حالة عدم قيام المتعهد بهذا التنفيذ أن يطالب بفسخ العقد المتضمن الاشتراط لمصلحته لأن هذا العقد إنما أبرم بين المشترط والمتعهد فهما وحدهما يستطيعان الادعاء بفسخه لعدم التنفيذ .أما المنتفع فلم يكن طرفا في العقد المذكور وليس له إذن المطالبة بالفسخ .

المنتفع لا يتلقى حقه من المشترط :إن المنتفع لا يتلقى حقه من المشترط ويترتب على ذلك النتائج الهامة التالية :

لا يجوز لدائني المشترط استيفاء ديونهم من حق المنتفع لأن هذا الحق لم يمر في ذمة المشترط المالية ولم يشكل بالتالي عنصرا من عناصر الضمان العام الذي يتمتعون به . وإذا مات المشترط ،لا يدخل حق المنتفع في تركته .فهكذا إذا مات الذي أمن على حياته لمصلحة أولاده فحق أولاده المنتفعين اتجاه شركة التأمين حق مباشر يتلقونه منها بصفتهم منتفعين لا بصفتهم ورثة  . فهم يستوفون مبلغ التأمين كاملا ولو كانت تركة أبيهم مثقلة بالديون .

حق المنتفع مصدره عقد الاشتراط :إن حق المنتفع مصدره العقد الذي أبرم فيما بين المشترط والمتعهد الذي تضمن الاشتراط لمصلحة المنتفع ويترتب على ذلك نتائج عديدة أهمها : أن حق المنتفع ينشأ من وقت عقد الاشتراط وبمجرد التعاقد لا من وقت إعلان المنتفع رغبته في الاستفادة من الاشتراط .وعليه إذا ما فقد المتعهد أهليته بعد العقد وقبل إظهار المنتفع رغبته ،فإن هذا لا يمنع المنتفع من إظهار هذه الرغبة والتمتع بحقه .

يثبت حق المنتفع في الحدود التي وردت في عقد الاشتراط فإذا كان حق مطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه محصورا بالمشترط وحده امتنع على المنتفع مقاضاة المتعهد .

يحق للمتعهد أن يتمسك إزاء المنتفع بجميع الدفوع الناشئة عن عقد الاشتراط نفسه :فإذا كان هذا العقد مثلا باطلا أو قابلا للإبطال جاز للمتعهد الادعاء بذلك ،والامتناع بالتالي عن تنفيذ التزامه إزاء المنتفع إذا ما تقرر البطلان أو الإبطال .

الفرع الثالث: الصــــــــــــــــــــــــورية

الصورية simulation  في معناها الواسع تنفيذ إظهار وضع وهمي بمظهر الوضع الحقيقي .واصطلاحا هي توافق إرادتين على إخفاء ما اتفقا عليه سرا تحت ستار عقد ظاهر لا ترضيان بحكمه ،فالعقد الصوري إذن هو عقد ينظمه الطرفان ذرا للرماد في أعين الغير ،ويتفقان في الخفاء على تعطيل كل أو بعض آثاره بمقتضى عقد مستتر acte clandestin  يسمى ورقة الضد يضمنانه حقيقة ما أراداه ورضيا به ،مثال ذلك أن يذكر البائع والمشتري ثمنا ضئيلا في صك البيع المنظم في العلانية ويحددان الثمن الحقيقي في صك مستتر .

وقد عرض المشرع المغربي للصورية  في المادة 22 التي نص على أن ” أوراق الضد أو غيرها من التصريحات المكتوبة لا يكون لها أثر إلا فيما بين المتعاقدين وورثتهما ،فلا يحتج بها على الغير إذا كانوا لم يعلموا بها .ويعتبر الخلف الخاص غير ا بالنسبة لأحكام هذه المادة “.

مختلف أنواع الصورية : الصورية على نوعين :صورية مطلقة وصورية نسبية .

يقال عن الصورية أنها مطلقة simulation absolue  أو يقال عن العقد الظاهر أنه وهمي ،عندما تكون الصورية في أصل العقد أي عندما يكون العقد المنظم في السر قد عطل كل أثر للعقد المنظم في العلانية .

ويقال عن الصورية أنها نسبية simulation relative  عندما تكون مقتصرة على إخفاء ماهية العقد أو شرط من شروطه ،أو شخص أحد المتعاقدين .فقد تقتصر الصورية النسبية على ماهية العقد الحقيقي وإظهاره في شكل عقد من نوع آخر كما في بيع حصة شائعة في عقار يتخذ في الظاهر شكل الهبة لمنع الشفيع من أخذ الحصة المتصرف فيها بالشفعة . وقد تقتصر على إخفاء شرط من شروط العقد كما لو تواضع البائع والمشتري في العقد الظاهر على ثمن أقل من الثمن المتعاقد عليه حقيقة في السر للحط من رسوم الفراغ المترتب للخزينة العامة .

وقد تكون الصورية النسبية مقتصرة على إخفاء شخص أحد المتعاقدين ،كما في التعاقد بطريق الاسم المستعار كان يكلف زيد عمروا بشراء شيء باسمه حتى إذا تم الشراء عمد عمرو إلة نقل ملكية الشيء إلى صاحبه الحقيقي زيد .

آثار الصورية : الصورية بحد ذاتها عمل مشروع ينتج آثارا قانونية ،ولكن هذه الآثار تختلف بالنسبة للمتعاقدين عما هي عليه بالنسبة للغير .

آثار الصورية بين المتعاقدين : العبرة بين المتعاقدين للعقد المستتر وحده كما نصت على ذلك صراحة المادة 22 بقولها :” أوراق الضد لا يكون لها أثر إلا فيما بين المتعاقدين “. ذلك أن العقد الظاهر كان في نية المتعاقدين شكليا لا قيمة قانونية له في الحقيقة ،فمن الواجب إذن إهماله .أما العقد المستتر فقد كان هو ما يقصده المتعاقدان فيجب إذن إعمال هذا العقد وتقييد الطرفين بأحكامه .

ولا يختلف حكم الخلف العام عن حكم المتعاقد نفسه .فالخلف العام تتمثل فيه شخصية المتعاقد المتوفى ،و العقد الذي يسري بحقه هو العقد الحقيق المستتر لا العقد الظاهر .وهذا ما أعلنته المادة 22 صراحة إذ قالت :”إن أوراق الضد يكون لها أثر بين المتعاقدين وورثتيهما “.

آثار الصورية بالنسبة للغير :تختلف آثار الصورية بالنسبة للغير بين الحالة التي يكون فيها الغير حسن النية أي غير عالة بالعقد المستتر ،وبين الحالة التي يكون فيها الغير سيء النية .و قبل عرض هذه الآثار يستحسن بيان مدلول الغير في حقل الصورية .

الغير في حقل الصورية لا يقصد به الأشخاص الذين لا تربطهم أي صلة إلزامية بالمتعاقدين والذين بقوا غريبين عن العقد فلم يكونوا أحد طرفيه ولم يكونوا ممثلين فيه .بل إن مدلول الغير هنا أوسع من ذلك إذ هو يشمل علاوة على هذه الفئة من الغير بالمعنى الصحيح الضيق الأشخاص الآتي بيانها :خلف المتعاقدين الخاص كالمشتري أو الموهوب له أو المرتهن الذي كان يلزم بأحكام العقد لو لم يتخذ شكلا مستترا ؛ الدائنون العاديون الذين رغم تأثرهم بصورة غير مباشرة بالعقود التي يبرمها المدين يصبحون بحكم الغير إزاء ما يكون تم منها بطريق الصورية .

الغير حسن النية :إذا كان الغير حسن النية ،فله أن يتمسك بالعقد الظاهر وأن يطالب بالحقوق التي تنتج عنه كما لو كان العقد المستتر لا وجود له .لهذا أعلن المشرع المغربي في المادة 22 أن أوراق الضد لا يحتج بها على الغير ” إذا كانوا لم يعلموا بها “. على أن من حق الغير إذا ما كانت له مصلحة في ذلك ، أن يثبت الصورية ويستفيد من العقد المستتر .

فللغير حسن النية عند تحقق الصورية ،الخيار إذن بين التمسك بالعقد الظاهر ،وبين إثبات الصورية والتمسك بالعقد المستتر .

الغير سيء النية : إذا كان الغير سيء النية أي إذا كان قد تعاقد مع أحد طرفي العقد الصوري مع علمه بالصورية ،فأحكام العقد الخفي هي التي تسري عليه .ومن البديهي أن الأصل حسن النية (المادة 477) وأن المفروض بالغير أنه يجهل حدوث المواضعة .فعلى من يرغب الإدلاء بسوء نية الغير لمنعه من التمسك بالعقد الظاهر ،أن يثبت إذن أن الغير كان عالما بوجود الصورية .

أفضلية من يتمسك بالعقد الظاهر عند تعارض مصالح الغير :حق الخيار الممنوح للغير حسن النية من شأنه أن يفضي إلى نزاع فيما بينهم .فقد تقضي مصلحة البعض منهم التمسك بالعقد الظاهر بينما تقضي مصلحة البعض الآخر بالتمسك بالعقد المستتر .ولا يمكن بالطبع إعمال العقدين معا .ففي هذه الحالة ورغم انتفاء النص يرجح جانب من يدلي بالعقد الظاهر ،لأن هذا العقد وحده علم بأمره الغير وهو حل تفرضه الحماية المتوجبة لمن وثق عن حسن نية في الظواهر .

إثبات الصورية :يترتب على من يدعي وجود الصورية إثبات صحة ادعائه .ولكن طرق الاثبات تختلف بالنسبة للمتعاقدين وخلفهم العام عما هي عليه بالنسبة للغير .

ففيما يتعلق بالمتعاقدين وخلفهم العام ،لا بد لإثبات الصورية في الحالات التي تزيد فيها قيمة العقد عن 10000درهم من دليل خطي أو على الأقل من مبدأ ثبوت بالكتابة وفقا لقواعد الإثبات العامة المنصوص عليها في المواد 443 و 448 من ق ل ع ،وكذلك هو الامر في الحالات التي تكون فيها قيمة العقد الصوري أقل من 10000 درهم فيما إذا كان العقد الظاهر جرى كتابة ،وذلك عملا بالقاعدة الأصولية العامة القائلة بعدم جواز إثبات ما يخالف او يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي إلا بدليل كتابي .( المادة 444 من ق ل ع ).

على أنه يجوز للمتعاقدين وخلفهم العام على سبيل الاستثناء ،إثبات الصورية بالشهادة حتى وبالقرائن ،عندما تستهدف الصورية الاحتيال على القانون، أو عندما يكون رضاء أحد المتعاقدين صوريا قد انتزع بالإكراه او التدليس .

أما فيما يتعلق بالغير فإنه يحق له إثبات الصورية بجميع الطرق الثبوتية وبصورة خاصة بالشهادة والقرائن .ذلك أن الصورية بالنسبة للغير تشكل مجرد واقعة وأنه يمكن إثبات الوقائع بجميع الوسائل .ثم أنه لما كان لا يعقل ان ينسب أي إهمال للغي لعدم حصوله على وثيقة خطية من المتعاقدين تثبت إقدامهم على التعاقد صوريا، فإن المنطق يقتضي تسهيل مهمة الغير وتخويله حق إثبات الصورية بالشهادة والقرائن .

تقادم دعوى الصورية : دعوى الصورية التي يقصد منها إحلال العقد المستتر محا العقد الظاهر ،وبالتالي تقرير الحقيقية لا يعقل أن تسقط بالتقادم لان الزمن مهما طال أمده ليس من شأنه أن يؤثر على التصرفات الصورية ويقلبها إلى تصرفات حقيقية .ولكن الحقوق والالتزامات التي هي موضوع دعوى الصورية تخضع للتقادم ،لأن التقادم طريق لاكتساب الحقوق وإسقاطها وأن كون الحق منبعث عن عقد مستتر لا يمكن أن يؤثر على طبيعة هذا الحق ويجعله غير قابل للتقادم .

أثر الحكم المتضمن إعلان الصورية : إن الحكم المتضمن إعلان الصورية هو حكم نسبي ،ينحصر أثره بالمتداعين دون غيرهم وهذا الأمر يتفق ومبدأ نسبية الشيء المقضي كما أنه ينسجم ومبدأ احترا حق الغير في التمسك بالعقد الظاهر رغم وجود العقد المستتر ،هذا الحق الذي يجب ألا يحرم منه ذو مصلحة لمجرد أنه طاب لمتعاقد من المتعاقدين أو لشخص آخر استصدار حكم بإعلان الصــــــــــــــــــــــورية.

Exit mobile version